في ظل ما يعانيه المستضعفون من المسلمين الآن في عدة بلدان من قتل وتعذيب وتدمير لمقدراتهم ونزوح عن بلدانهم وغيرها من الفظائع مما يتفطر لها قلب المسلم صحيح الإيمان؛ تبرز عدة أسئلة يُمنِّي المرء نفسه بتحصيل إجاباتها الصحيحة: ما الذي أوجبه الله عز وجل عليَّ تجاه إخواني المستضعفين؟ وهل كلفني الله فوق طاقتي إذا لم أستطع رفع الظلم عنهم؟ وكيف لا يؤول أمري إلى تبلد شعوري تجاههم؟
وفي طريق الإجابة عن تلك الأسئلة نتعرض لعدة مرتكزات رغبة في تأصيل ما قبل الجواب.
نفسية المسلم
لا يُرى الإسلام مجردًا؛ بل يُرى كخُلُق يتمثل في أهله، فلا يتكثرون من الدنيا على حساب دينهم حرصًا على سلامة قلوبهم، قال الله تعالى: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ {88} إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء)، فسمتهم أنهم راحمون مستجلبون بذلك رحمة الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحُمهم الرحمنُ، ارحموا أهلَ الأرضِ يَرْحَمْكم من في السماءِ»(1)، وهم متضعفون يميلون إلى الرقة بطبعهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بأَهْلِ الجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ، لو أقْسَمَ علَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ»(2)، مستجيبون لمحاب الله عز وجل بأنهم أهل رفق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ الرِّفقَ في الأمرِ كلِّه»(3).
ولذلك فليس في مفردات نفسية المسلم قلة المبالاة وعدم الاكتراث؛ بل هو فاعل فيما حوله بما تمليه عليه أخلاقه الخيِّرة وطبعه الرقيق، فكيف ولو كان المقصودون إخوانه من أهل الإسلام؟!
واجب النصرة
وأهل الإسلام هم أولى الناس بأخلاق صاحب القلب السليم، وذلك ما يمليه عليه دينه الذي فرض عليه وِلايتهم بحبهم القلبي ونصرتهم العملية، كما قال الله سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ {55} وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (المائدة)، فحب المسلمين ونصرتهم مما يتماشى ضرورة مع ما في نفس صاحب القلب السليم، فلا يكفيه مجرد التعاطف؛ بل هو نصير أهل الإسلام المدافع عنهم القائم بحاجاتهم المحب لهم بحبه لربهم عز وجل ورسولهم صلى الله عليه وسلم.
الواجبات العملية تجاه المستضعفين
وليس بآكد لذي النفس المستقيمة إلا أن تنصرف النصرة العملية في أوجها للمستضعفين من المسلمين، فإن ذلك مما تمليه عليه فطرته، ويزكيه جزيل الثواب عليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلمُ أخو المسلمِ لا يظلِمُه ولا يُسلِمُه، مَن كان في حاجةِ أخيه كان اللهُ في حاجتِه، ومَن فرَّج عن مسلمٍ كُربةً فرَّج اللهُ بها عنه كربةً مِن كُرَبِ يومِ القيامةِ، ومَن ستَر مسلمًا ستَره اللهُ يومَ القيامةِ»(4).
وهذا الحديث مما يمثل الهدي العام الذي ينبغي للمسلمين فعله تجاه المستضعفين، لكن هذه النصرة قد تختلف أشكالها حسب الحال.
مراتب نصرة المستضعفين
وليس كل مسلم قادراً على استنقاذ أخيه المستضعف مما هو فيه، وفي السُّنة النبوية تشريع عجيب يقف المرء معه وقفات جليلة من فرط فوائده، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أكرم خلق الله على الله عز وجل؛ وهين عليه تبارك وتعالى أن يُكرمه بالقوة لاستنقاذ أصحابه مما ألمَّ بهم من التعذيب أو الأسر، ومع ذلك فقد قدَّر الله عز وجل أن قُتل بين يديه بعضهم وأُسر آخرون، وذلك ليعلم المسلم حيلته مع قضاء الله عز وجل وما شرعه الله تعالى وقت حدوث ذلك؛ فلا يقف عاجزًا بلا حيلة ولو لم يستطع عمليًا تغيير واقعه.
وهناك في هذا الصدد حديثان عظيمان؛ الأول: مواساة رسول الله صلى الله عليه وسلم لآل ياسر رضي الله عنهم حين اشتد تعذيبهم بمكة، فقال لهم: «صبرًا آل ياسرٍ، فإنَّ موعدَكم الجنةُ»(5)، وهذا مما يُعلم منه عظيم الوقع لكلمات المواساة من التذكير بثواب الله عز وجل وتعظيم الصبر على البلاء، وذلك مما يجب أن يُتأسَّى به في واقعنا، فلا يفتر المسلم عن بيان بطولات المسلمين المستضعفين من صبرهم واستقامتهم وتمسكهم بدين الله عز وجل حال البلاء، فذلك مما يثبتهم حتى يمن الله عليهم بزوال البلاء أو الثبات على الدين حتى ملاقاته تعالى في خير حال.
والثاني: قنوت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا في سائر الصلوات المفروضة لأجل دعاء الله عز وجل باستنقاذ ثلاثة من المسلمين المأسورين في مكة والدعاء على آسريهم، فقد جاء عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ بَعْدَ الرَّكْعَةِ فِي صَلَاةٍ شَهْرًا، إِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، يَقُولُ فِي قُنُوتِهِ: «اللهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدَ، اللهُمَّ نَجِّ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، اللهُمَّ نَجِّ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللهُمَّ نَجِّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ»، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: ثُمَّ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ الدُّعَاءَ بَعْدُ(6).
وقد كان ترك الدعاء لهم بذلك بعدها لأنه قد فُك أسرهم(7)، فلحقوا بأبي بصير رضي الله عنهم جميعًا يعترضون عير قريش حتى بلغوا بهم الجهد، فجاءت قريش على إثر ذلك ترجو النبي صلى الله عليه وسلم في استيعابهم في المدينة، فحاز بعضهم عز الشهادة في جهادهم المشركين، والآخرون عز النصر واللحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم(8).
أثر القيام بهذه الواجبات على قلب المسلم
وإنا لنجد من محاسن امتثال ذلك الهدي في نصرة المسلمين -لمن لا يملك إزالة الظلم عنهم- من مواساتهم في جراحاتهم والدعاء الدائم لهم حتى في الصلوات المفروضة أمرين جليلين؛ الأول: إسقاط واجب النصرة الذي فرضه الله عز وجل على كل مسلم تجاه إخوانه المستضعفين؛ فإن الله يكلف بما يُستطاع لا غيره مما لا يقدر عليه العبد، والثاني: ما يجده المسلم من حياة القلب؛ فإن امتثال ذلك لهو الضامن لعدم تبلد الشعور تجاه المستضعفين من المسلمين، فلا ينشغل القلب عنهم لمتاع الدنيا الزائل، ولا تخفت في القلب إرادة نصرتهم بإزالة الظلم عنهم، بخلاف من فرَّط في هذه الممكنات؛ فإنه يُظن فيه خذلانهم إن قدر على إزالة الظلم عنهم، عافانا الله من هذا المصير.
_____________________
(1) صحيح، أخرجه أبو داود (4941)، والترمذي (1924)، وأحمد (6494).
(2) رواه البخاري (4918).
(3) أخرجه البخاري (6024)، ومسلم (2165) مطولاً.
(4) رواه البخاري (2442)، ومسلم (2580) باختلاف يسير.
(5) رواه الطبراني في المعجم الأوسط (1508)، والحاكم (5666)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (6664) باختلاف يسير، وقال الألباني: حسن صحيح.
(6) رواه البخاري (1006)، ومسلم (675).
(7) قاله أبو هريرة فيما رواه مسلم (675).
(8) يراجع طرح التثريب للعراقي (2/ 293).