أعمال أكبر من أن تكتب الملائكة أجرها أو أن تضعها في الميزان، فقد وعد الله تعالى من يفعلها بأن أجره على الله، يوفيه إياها بغير حساب، ذلك لعظيم فضلها وجزيل ثوابها، ومن هذه الأعمال ما يأتي:
أولاً: العفو عن الناس:
الإسلام شرع للمظلوم أن يأخذ حقه من ظالمه عدلاً وإنصافاً، لكنه حث المظلوم على العفو والمسامحة فضلاً منه وإكراماً، فإذا سعى في أخذ حقه فهو له بلا حرج أو لوم، وإذا عفا وسامح فقد أخذ بالفضل والكرم، وزاده الله في الأجر والثواب أن يعطيه بنفسه من غير حساب، فهو كريم والله تعالى كريم، بل هو أكرم الأكرمين، وفي هذا يقول الله تعالى: (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {40} وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ) (الشورى)، ففي قوله: «فأجره على الله» وعد مبهم، لا يقاس أمره في التعظيم(1)؛ أي أن الإبهام في ذكر الأجر دليل على عظمته بصورة لا يتخيلها الإنسان، فهو وعد عظيم من رب عظيم.
فإذا كان الإنسان قادراً على الانتقام ممن ظلمه، لكنه يتنازل عن حقه ويعفو ويصفح ويحسن إلى عدوه الظالم بالعفو عنه، فإنه ينال درجة عظيمة عند الله بأن يعطيه أجره بغير حساب، كما ينال كذلك درجة عظيمة بين الناس، بأن يكون عزيزاً، ذلك أنه يستطيع الانتقام، ولكنه يتنازل عنه، فهو عزيز كريم، يعني أن الانتقام بالنسبة له شيء هين يستطيع أن يفعله كما يفعله غيره من الناس، لكن العفو أعظم وأكبر.
ومنه ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ».
ثانياً: الصبر على الناس:
الصبر حبس النفس على ما تكره، ولهذا فإنه يعد من أعظم أنواع الجهاد في سبيل الله، فالنفس تميل إلى الشهوات، وحبسها عنها يحتاج إلى قوة وعزم، وحسن تعويض وجزاء، ولهذا كان الصابرون يأخذون أجرهم بغير حساب، وفي هذا يقول تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر: 10).
ثالثاً: الصيام:
الصيام جزء من الصبر، بل هو نصفه، كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والصوم نصف الصبر»، وقد جمع الله تعالى وفاء الأجر بغير حساب للصائم والصابر.
وروى أبو هريرة: «كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله: إلا الصيام، فهو لي، وأنا أجزي به؛ يدع الطعام من أجلي، ويدع الشراب من أجلي، ويدع لذته من أجلي، ويدع زوجته من أجلي»(2)، وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رَسول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: «قالَ اللَّهُ تعالى: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ له، إلَّا الصِّيَامَ؛ فإنَّه لي، وأَنَا أجْزِي به»(3).
رابعاً: الهجرة والموت في سبيل الله:
إن الله تعالى قد أوضح في القرآن الكريم أن من خرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم مات فقد وقع أجره على الله، حيث قال عز وجل: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (النساء: 100). وفي الآية دلالة على أن الأجر الكريم مترتب على بذل الوسع والطاقة مع صدق النية وإخلاصها، فمن فعل ذلك فقد وقع أجره على الله، حتى وإن لم يصل إلى تمام العمل وكماله، وفي هذا من تعظيم النية الصالحة وبذل الجهد على قدر الاستطاعة ما فيه من التعظيم والتكريم.
إن الله تعالى يتفضل على عباده بالإكرام والإنعام ويزيد في فضله وإنعامه بأن يزيد الأجر والثواب ويجعل العطاء بيده الكريمة لمن كان كريماً وعظيماً في أفعاله، كمن يعفو عن الناس ويصبر عليهم، ومن يصوم لله تعالى ويخلص النية ويحسن العمل.
__________________
(1) تفسير الرازي (27/ 607).
(2) صحيح ابن خزيمة: (2/ 916 رقم 1897).
(3) صحيح البخاري (1904)، صحيح مسلم (1151).