لقد عظم الله تعالى منزلة الشهادة في سبيله، فجعل لأصحابها الأجر الجزيل والعطاء الوفير، قال تعالى: (وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) (الحديد: 19)، فهم أحياء عند ربهم يرزقون، والشهيد يتمنى الرجوع إلى الدنيا ليقتل في سبيل الله مرة أخرى فأخرى لما يرى من الكرامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يموت له عند الله خير، يحب أن يرجع إلى الدنيا وأنَّ له الدُّنيا وما فيها إلاَّ الشَّهيد؛ لما يرى من فَضل الشَّهادة؛ فإنَّه يسُرُّه أن يَرجع إلى الدُّنيا فيُقتل مرَّةً أُخرى» (رواه الترمذي)، حتى إن نبينا صلى الله عليه وسلم وهو صاحب المقام المحمود يتمنى أن يكون شهيداً وأن يقتل في سبيل الله مرات ومرات، قال عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده وددت أني أقاتل في سبيل الله فأُقتل ثم أحيا ثم أُقتل ثم أحيا ثم أُقتل» (متفق عليه).
والشهداء لا يفتنون في قبورهم، فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: «كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة» (صحيح الترغيب والترهيب)، هذا والشواهد في هذا الباب من الآيات والأحاديث كثيرة مستفيضة مشهورة.
ونظراً لهذه المكانة الرفيعة للشهداء عند الله تعالى، فإننا نجد المجاهدين؛ قادة وأفراداً، يتسابقون لنيلها، وخير الناس من اصطفاه الله تعالى للعمل لخدمة دينه واستبقاه حياً من أجل ذلك ردحاً من الزمان ثم ختم عمله بالشهادة في سبيله، قال تعالى: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران: 140)، فكلما ارتقى شهيد غبطه بذلك الأحياء؛ (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب: 23).
إن استشهاد قادة المسلمين عبر التاريخ لم يكن يوماً مدعاة للتقهقر والتراجع، بل كان حافزاً للسير على طريقهم والموت على ما ماتوا عليه، وهذا أنس بن النضر رضي الله عنه يؤصل لهذه المسألة تأصيلاً رائعاً، روى ابن إسحق في سيرته قال: انتهى أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل.
وروى ابن إسحق أيضاً عن أنس بن مالك أن عمه غاب عن «بدر»، فقال: غبت عن أول قتال قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، لئن أشهدني الله مع النبي صلى الله عليه وسلم مشهداً ليرين الله ما أفعل، فلقي يوم «أُحد» فهزم الناس، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني المسلمين- وأبرأ إليك مما جاء به المشركون، فتقدم بسيفه فلقي سعداً بن معاذ، فقال: إلى أين يا سعد؟ فقال: إني لأجد ريح الجنة دون أُحد، فمضى فقتل، فما عرف حتى عرفته أخته بشامة أو ببنانة وبه بضع وثمانون من بين طعنة وضربة ورمية سهم.
ويوم «مؤتة» تلك المعركة الرهيبة الدامية حيث واجه ثلاثة آلاف مسلم مائتي ألف مقاتل من الروم ونصارى العرب، واستشهد يومها قادة الجيش الذين أمّرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبدالله بن رواحة، أمّرهم على الترتيب، واستشهدوا جميعاً في مشهد ملحمي مهيب، ثم اتفق المسلمون على إمرة خالد بن الوليد فحمل الراية وقاتل وأنقذ الجيش من هذا الخطر العظيم، وسماهم النبي صلى الله عليه وسلم بالكرار، وأطلق على خالد «سيف الله».
لا شك أن استشهاد قادة المقاومة يحزن المؤمنين ولكنه في ذات الوقت يشعل فيهم الحماسة ويجدد لهم الإيمان واليقين، وإن دعوة الله تعالى ليست مرتبطة بأشخاص إن ماتوا ماتت، بل يقيض الله تعالى لهذه الدعوة قادة جدداً يرفعون الراية ويواصلون المسير، وتستمر قافلة الشهداء ويستمر معها المدد والعطاء.
وقد رأينا في حركة المقاومة الإسلامية (حماس) مثالاً حياً يؤكد هذه السُّنة الربانية، فقد استشهد القائد المؤسس ونائبه (الياسين، والرنتيسي) وعدد غفير من قادة الصف الأول والثاني في الضفة وغزة، بل وخارج فلسطين أيضاً، ودائماً كان يظهر قادة جدد يكتب الله على أيديهم تطوير أساليب الجهاد وتجييش الجنود والاستعداد، ليخوضوا معارك الكرامة والتحرير ضد الاحتلال الصهيوني البغيض المدعوم من الغرب ومن بعض العرب.
فاستشهاد القادة هو تحقيق لغاية نبيلة عاشوا وضحوا من أجلها طويلاً، فهنيئاً لهم شرف الاصطفاء لهذا المقام.
استشهاد القادة هو شرف خاص للشهيد وعام لحركات الجهاد والمقاومة؛ فكل حركة تفخر بشهدائها عامة وبقادتها الشهداء خاصة، وتؤكد مصداقيتها وشرعيتها.
استشهاد القادة حافز لتجديد العهد والبيعة مع الله تعالى، ورافع لوتيرة العمل والبذل والجهاد، على مستوى المجاهدين والعاملين.
استشهاد القادة سبب مباشر لاستنهاض الأمة وإيقاظها من غفلتها وتفعيل لمواردها المالية والبشرية كي تنخرط في معركة تحرير مقدساتنا وأرضنا.
استشهاد القادة يستنهض أحرار العالم من غير المسلمين لنصرة قضيتنا ويكشف جرائم عدونا ليقطع بالتدريج حبل الناس عن نصرة عدونا.
استشهاد القادة فيه تجديد لمقام القيادة ومدعاة للبناء على ما قدمه السابقون لتطوير العمل ولتلافي الأخطاء السابقة ولابتكار وسائل جديدة لتحقيق الأهداف المرجوة.