لقد انتهى بناء الرواية مع حشوه وفجواته وخطابيته وهجائه ومبالغاته، بصمت إسطاسية عن النواح، وزواج حمزة من ندا ابنة خاله، والإقامة في الريف، وفتح أول مكتب للمحاماة في القرية باسم مكتب حمزة للمحاماة، وأول قضية في هذا المكتب مرفوعة من إسطاسية ضد العمدة وأخيه والورثة، وتغيير الدنيا برغبة الأفراد الصالحين في الكفاح ومحاربة الفساد، وتحقيق العدالة للناس جميعا.
تغطية صحفية
ولا بأس أن نشير إلى تغطية صحفية عن ندوة حول الرواية، نشرتها مجلة البيان الإماراتية في 29 ديسمبر 2011 التي تصدر في دبي للصحفية رشا المالح، ليرى القارئ وجهة نظر أخرى لا أعلق عليها، لأترك له حرية اتخاذ الموقف الذي يراه.
انقسم المتحدثون كما تقول التغطية إلى فريقين، أحدهما تحدث عن سطحية الرواية مقارنة بأعمال الكاتب السابقة مع إدراجها في القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر العربية). ابتداء من ضعف الحبكة المتمثلة في افتعال الأحداث وعدم تناسقها، إلى المبالغة في الوصف والسرد الممل، وعدم قدرة الكاتب على تجاوز مخيلة القارئ وتنبؤه بمجريات الأحداث، وضعف النهاية التقليدية، كذلك عدم التوافق التاريخي كجمعه بين (أنفلونزا الطيور) و(جنون البقر)، وشخصية البطل حمزة السلبية في تفاعلها مع الأحداث لتبني مواقفها من خلال حكمة الأم ثم ابنة خاله، واعتباره لمهنة التجارة في مزرعة دواجن طريقاً لفساد الروح، مقارنة بمهنة المحاماة! وعلاقة الحب غير المقنعة.
وقال بعض المشاركين إنهم لم يستطيعوا متابعة قراءة الكتاب نتيجة حالة السأم التي طغت عليهم بسبب المبالغة في الوصف والسرد، على الرغم من أن عدد صفحات الرواية قليل.
أما الفريق الثاني فقد أشار إلى أهمية العمل وقيمته على الصعيد الفكري والأدبي، وتحدث عن عمق الطرح وذكاء الكاتب في تناول العديد من القضايا الحساسة بأسلوب غير مباشر، من التعايش السلمي بين الطوائف إلى السلوكيات السلبية من بعض الفئات الجاهلة، واعتماده على العديد من الرموز مثل تزامن دعوات إسطاسية مع أذان الفجر، والرمزية في الموت المتتالي لجميع الفاسدين في إشارة إلى العدالة الإلهية. وتسويغ هشاشة مشاعر حمزة بصفته ابناً وحيداً، ليتشكل وعيه بمجريات أحداث قريته بعد غيابه الطويل بسبب الدراسة. كما أجمع نفر من الفريق الثاني على المبالغة في السرد والوصف وغياب عنصر التشويق وبرود النهاية.
الشخصيات:
تعتمد الرواية على عدد كبير من الشخصيات يخدمون فكرتها الأساسية وهي التعاطف مع امرأة غير مسلمة قتل ابنها غيلة وهو يحضر عرسا في قرية مجاورة، وإن كانوا يستنكرون نواحها الذي يتجدد مع فجر كل يوم، ويشعرون كأنهم مشاركون باغتيال وحيدها، مع أن المتهم الحقيقي لم يظهر إلا في نهايات الرواية. إنه اتهام للمجتمع والبيئة الحاضنة بالتعصب والكراهية والظلم الصارخ الذي يقتل الشاب وحيد أمه، ويضيق على غير المسلمين ويسبّهم ويميزّ بينهم في الحياة والتعليم ويستلب أرضهم وحقوقهم، مع أنهم أصل البلد كما تشير الرواية على لسان بعض الشخصيات.
توظيف الشخصيات يتم للتحريض على الأكثرية الظالمة عبر نماذج معظمها فاسد وغير متدين وظالم وجشع، ولهذا لم تستبطن الرواية شخصية واحدة وتكشف عما في داخلها باستثناء شخصية حمزة الصبيّ الذي يفقد أباه الرجل الطيب عالم الأزهر وإمام المسجد، ويتمزق بين الانتماء العائلي والاستقلال الذاتي سعيا للتحرر من سوء سمعة العائلة، والانتقال إلى مصاف الشخصيات الخيرة.
إسطاسية
لم نتعرف على شخصية الأم إسطاسية، خياطة الملابس، من داخلها، وموقفها الإنساني والاجتماعي الذي يوضح نظرتها للحياة والناس، فقط نرى رد فعلها وهلعها وحزنها الذي يعبر عن نفسه بالصوت الغاضب المحتج الذي ينوح طوال الرواية بالدعاء على الظالمين وطلبا للعدل والقصاص، واتهامها ضمنيا للأكثرية بالظلم والقهر، كما نرى رد فعل الناس على نواحها ودعائها. إنها تنوح مع فجر كل يوم وتجد تعاطفا ومساندة من بعض النساء، ولكن المبالغة السردية في استمرار نواحها اليومي لسنوات طويلة (حوالي خمس سنوات) جعلها مصدر إحساس بالتشاؤم لدى بعض الناس، لدرجة أن سيد أبو ستيت يرى أن ذهاب العمدة إلى عرس بنت أخيه نوعا من الفأل الحسن والترفيه عن النفس التي جفت من شدة الحزن وكثرة الكرب منذ أن “جأرت بوز الإخص إسطاسية بصوتها النكير فسوّدت فجر الأيام وصبحها، سوّد الله عيشها وعيش الذين خلفوها ” (الرواية، ص133).
من الطبيعي أن تحزن المرأة لفقدان ولدها، وتبحث عن العدل والقصاص، ولكن استمرار الحزن، وما رافقة من نواح وهلع وصياح يتكرر كل فجر، على مدى السنوات الطوال كان أمرا غير مقنع فنيا وواقعيا، ويبدو أن تجييش الغضب ضد الأكثرية كان هدفا أساسيًا للرواية التي ما لبثت أن أسهبت في هجائها وتعديد مثالبها.
صوت المؤذن
“النار تصحو قبل أذان الفجر بقليل. ما تكاد ألسنة اللهب تزيح ستائر الدخان الكثيف وتظهر في الفضاء سافرة عارية فوق دار إسطاسية أرملة المقدس جرجس غطاس حتى يتأكد كل من كان في الخلاء لحظتها أن الفجر قد وجب. إن هي إلا لحظات ويرتفع صوت المؤذن باستغاثة الفجر الأبدية كلاما ونغما وأداء: يا رب بالمصطفى بلغ مقاصدنا واسمح لنا بالرضا يا واسع الكرم..”(الرواية، ص9).
كل أهالي البلدان المتجاورة الملمومة على بعضها…. أصبحوا يتجرعون مرارة محنة الارملة التعيسة إسطاسية، يتألمون لمصابها ولكن ما باليد حيلة، حرقة بكائها تنسرب إلى أفئدة النساء فينخرطن في بكاء صامت حراق تتخلله عبارات أسيفة…”(الرواية، ص10). يبرطم الرجال السارحون إلى الغيطان مبكرا بعبارات من قبيل: يا ولية فضيها سيرة بقي! احنا ناقصينك؟! إلا أن مثل هذه العبارة تخرج من حنك صاحبها مبللة بالدمع السخين. أما الديكة فإنها أشد تعاطفا مع إسطاسية، ما تكاد تسمع صوتها يستنزل اللعنات على من فجعها في ابنها الوحيد حتى تجاوبها من أعمق أعماقها بصيحات ممطوطة كالزفير المثقل بهطيل الدمع”.. “لقد بات الناس على يقين جازم بأن الله سبحانه وتعالى سوف يستجيب لدعوات إسطاسية ويهلك من فجعها في وحيدها؛ سيما وأنها بعد إذ يئست من وجود العدل بين البشر تقدمت بمظلمتها إلى باب السماء مكتوبة على ألسنة اللهب؛ ذلك أنهم على يقين أشد رسوخا من أن من يطرق باب الكريم على هذا النحو الضارع الفاجع لا بد وأن تنصفه عدالة السماء..” (الرواية، ص 11).
العمق النفسي
إسطاسية التي تحمل الرواية اسمها لا تحضر في السرد كثيرا. نراها في مرات قليلة أبرزها عند وفاة زوجها، وفي بيت حمزة البراوي المحامي لتطلب منه رفع دعوى ضد عمه العمدة وأخيه، لقد سكتت عن النواح والصياح والدعاء على الظالمين بعد رحيل العمدة وفتح مكتب حمزة للمحاماة. لقد تحولت إلى الحالة العادية- إن صح التعبير- فتبدي استعدادها لدفع ما تحتاجه القضية من أموال، وحين يبدي المحامي رأيه في صعوبة القضية تقول له: “يبقى ربنا معاك! ويا بختك لو راضيته!” (الرواية، ص 254).
وإذا كانت إسطاسية شخصية بلا عمق نفسي أو اجتماعي فإن شخصيات عائلات البراوي وأبو ستيت وعبد العظيم عتمان وعائلات النصارى تبدو مسطحة ولا نعرف دواخلها بقدر ما نعلم عن صراعاتها ومكائدها وخططها لتحقيق مطامعها، صحيح أنها تقدم لنا صورا ريفية لعل أكثرها يعود إلى الماضي القريب ولا وجود له في واقعنا المعاصر بعد التحولات الحادة في حياة القرية، وانتقالها من الإنتاج إلى الاستهلاك، والخروج إلى أرجاء العالم بحثا عن المال، بيد أن معظم الشخصيات تبدو مسكونة بهاجس العداء للنصارى والرغبة في العدوان عليهم وسبّهم في المناسبات المختلفة، وهو ما يضع الأكثرية المسلمة في موضع الإدانة الدائمة. قليل من الشخصيات يسعى إلى العدل، ويؤمن بالتعايش الطبيعي ويؤمن بحق الآخرين في الإيمان بالعقيدة التي يرتضيها.
عواد البراوي
العمدة عواد البراوي مشغول بماكينة الطحين وما كينة الري وتوطيد نفوذ العائلة واستغلال هذا النفوذ، مع المكر والخداع، في الاستيلاء على الأرض التي يملكها غيره، مسلما أو غير مسلم، ومصاحبة المشتبه بهم والخارجين على القانون، من أمثال قاطع الطريق معاطي ورجاله، بشلة وزيدان وأبو زعير وأبو هوانه التملّي ومرِّيسة المتخصص في سرقة أسواق بأكملها، وكلهم أغراب، ويزعم عواد أنه يستعين بهم لأغراض مشروعة مثل معرفة قتلة محفوظ أو يستخدمهم جواسيس ومخبرين ويستعين بهم للقبض على قطاع الطرق!!(الرواية، ص35-36) وفي الحقيقة فإنه يستخدمهم لمواجهة القرية التي تنظر إلى عائلة البراوي نظرة اتهام وكراهية.
لا تقدم الرواية وصفا خارجيا أو داخليا لعواد، لدرجة أننا لا نعلم بضخامة جثته وثقله إلا عند موته الفجائي في يوم شديد القيظ والمشيّعون يريدون دفنه فيرهقهم بحمله وكسر نعشه (الرواية، ص234)، والأمر كذلك بالنسبة لولديه، عمار وعبد الغني عواد البري، دولاب العمل في الأرض الزراعية، لا نعلم عنهما شيئا ذا بال إلا عندما طلبهما وكيل النيابة للتحقيق في بلاغ عازر صبحي، وحكم عليهما بالسجن خمسة عشر عاما مع غرامة عشرة آلاف جنيه لكل منهما (الرواية، 80 – 140)، وإن كان اسماهما قد وردا ضمن أسماء العائلة (ص 14)، وهي العائلة التي تحوّلت من بدو رحّل إلى فلاحين من ذوي الأملاك، يرهبهم الناس لكثرة رجالهم الأقوياء.
الشيخ حامد
الوحيد الذي يختلف عن العائلة الشيخ حامد البراوي والد حمزة، الشخصية الأساس في الرواية والباحث عن العدل. والشيخ حامد عميد العائلة وكبيرها وإمام البلدة ومأذونها وخطيب مسجدها الكبير طوال خمسين عاما شهدت تطور العائلة. وهو صاحب مواقف عامة. يهرول في شوارع القرية صائحا في هلع: كيف ينتهك الصهاينة كنيسة العذراء ويهدرون هيبتها (يبدو أن الشيخ حامد لم يسمع عن المسجد الأقصى وما جرى له فلم يذكره أبدا في كلامه أو خطبه)، ويتحدى الرأي المتخلف في القرية فيكفّر حكومة طالبان بأفغانستان المنكوبة بها، وخروجها من مرتبة الإنسانية بتحطيم التماثيل الفنية لبوذا، (ويتجاهل ما فعله الروس والأميركان من قتل مئات الآلاف من أهل أفغانستان البشر لا الحجر، وتدمير هذا البلد المسلم الذي لا يستحق التكفير طالما يؤمن أهله بالشهادتين)، وقد أمضى زواج ابنة أخيه من الشاب الذي تحبه، ولهذا أحبه الناس وكانوا يتمنون بناء ضريح محترم له يزورونه، وكان يشكم عائلته بالقوة، ولهذا “ما صدّقوا أنه رحل حتى فَجَروا” فجورا شديدا. لقد تضعضعت صحته بسبب صدمته في أخويه (العمدة عابد ومستشاره عواد) وسلوكهما، حتى مات قهرا، وبموته سقطت هيبة العائلة (الرواية، ص 14- 15- 34 – 60- 70).
الأم حليمة
ونرى صورة للمرأة الريفية الواعية المنظمة التي تستشعر المستقبل من الأحداث والمواقف، وتنجح في التأثير على ابنها الوحيد وتوجيهه، هي أم حمزة أو الأم حليمة التي ترملت بعد وفاة زوجها الشيخ حامد البراوي وقد أضحت نسخة منه في تصرفاته ومواقفه، ومع أنها ولدت وتربت في مدينة طنطا- أي “بندرية” وفق وصف الفلاحين- فقد تفاعلت مع البراوية، وانغمست في تقاليدهم وعاداتهم، وساعدتها ثقافتها ولباقتها في مداواة الجروح وحل مشكلات الزواج والطلاق وما شابه. وكان لها تأثير آخر من قبل على أخيها المحامي عبد الودود القصبي قبل الزواج في تنظيم حياته ومساعدته على النجاح في مهنته، حتى صار كبير المحامين في طنطا، وهو ما اعترف به لابنها حمزة، وعبر عنه بهداياه إليها، والوقوف إلى جانبها وجانب ابنها (الرواية، ص 16).
عبد العظيم عتمان
وتمثل شخصية عبد العظيم عتمان نموذجا للفلاح الذكي، ولكن طول لسانه يوقعه في مآزق ومتاعب، وعمله الأصلي جزار، وعائلته مشهورة بوراثة المهنة من قديم الأزل، وهو مشهور بلقب “الوقيع” لتخصصه في ذبح البهائم النافقة (جاموسة وقعت في بئر الساقية، بقرة أصيبت بمرض غامض..). عبد العظيم جاهز بالسكين في كل لحظة. ويقوم بتسويق الذبيحة بطريقته الخاصة التي تجعل الفقراء يقبلون عليها. اشتهر عبد العظيم بالإساءة إلى الأقباط أهل السماحة والمحبة كما يصفهم الشيخ “حامد البراوي” في خطبه، وتقدم الرواية نماذج من هذه الإساءات تبالغ فيها إلى حد استخدام هتافات بذيئة ومتدنية يهتف بها الأطفال الذين يحرضهم عبد العظيم ضد الأقباط، ويبقى حرص عبد العظيم على كسب المال، هدفا أساسيا فينافس العمدة بشراء ماكينة مياه جديدة بمشاركة آخرين، ويدخل في صراع مع البراوية الذين يملكون ماكينة المياه الوحيدة في المنطقة، ويتهم بقتل محفوظ لأنه يعبر عن كراهيته للنصارى دائما، وتتم تبرئته في المحكمة، فهو شخص يتكلم ولا يفعل، وكأنه يتعامل مع النصارى مثلما يتعامل أهل بحري مع الصعايدة بالتنكيت والمزاح، وإن كانت الرواية بالغت في عدوانيته اللفظية لغاية تخدم فكرة التملق الطائفي. ويذكّر عبد العظيم أم محفوظ بأنه أنقذ ابنها ذات يوم حين أوشك على الغرق في هويس ترعة المشروع، وأنه لم يكن ينوي به شرا أو بغيره، ثم يذكّر ها بإنقاذ دارها من الحريق يوم شبّت النار في الدريس المتكوّم أمامها، وكان صُواتها هو الصُوات نفسه كل فَجْر يفزع الغائب في سابع نومة. كان عبد العظيم أول من نطّ فوق سطح الدار وأخمد النار قبل أن تستفحل في سقفها (الرواية، ص 58- 59). عبد العظيم سليم الفطرة فيما يخص الآخرين مع أن لسانه طويل، وعابد البراوي يخطط دائما للتخلص منه ويكيد له كلما استطاع (الرواية، ص203).
حمزة البراوي
“حمزة البراوى” هو الشخصية الأساسية المقابلة لشخصية إسطاسية محور الرواية، وتشغله قضية ابنها القتيل مذ أتم دراسة الحقوق، وعاد إلى “منية الكردي”، ويفكر كيف يصل إلى القاتل، ويحقق العدالة لامرأة فقدت الأمل في تحقيقها على الأرض فلجأت إلى السماء.
حمزة وحيد والديه، وهو مع أمه يشبه إسطاسية وابنها القتيل. نشأته وحيدا جعلت شخصيته غير ناضجة إلا بتوجيه أمه، وخاله عبد الودود القصبي صاحب التجارب والخبرات. تمزقه سمعة عائلته “البراوية” وانحرافاتها، وتمنيه التخلص منها والاستقلال عنها، تحاول أمه أن توجهه نحو الإصلاح والمواجهة مع الأخطاء والخطايا التي يرتكبها أعمامه، وفي الوقت نفسه يشعر بألم من نظرات الناس وكأنها تلاحقه بسبب عائلته.
تقول حليمة: “يا رب لا تؤاخذني، أنا من ناحية وإسطاسية من ناحية، لكن لا قدر الله الشر وبعيد، هي تشكو لك ظلمها، وأنا الآن أرفع صوتي لك مثلها لكي تهدي وحيدي.. حبة عين أمه يريد أن يفتح ملف قضية مقتل محفوظ ابن إسطاسية ويعيد التحقيق في مقتله، مصيبة، يقول إنه يفعل ذلك لنفسه لا للحكومة!” (الرواية، ص30).
ألف حدأة
تتحاور أمه معه ليتعقّل ويبتعد عن هذا الأمر الشائك الذي سيدخله في سكك سوداء قد تؤدي به إلى القتل مثله، فيخبرها أن ذلك قد يحدث له وهو قاض، وكان من قبل يحاول إقناعها بأنه يتمرن على القضية لعله يفلح في كشف غموضها، ولكنها تشعر بأن ألف حدأة تنقر في قلبها وتتخاطف نياطه، فماذا يكون حاله لا قدر الله…؟
“يا ولدي! أنت الآن في حضني أي نعم! لكني لا أدري لماذا أشعر كأني أتكلم عن ابن لشخص آخر؟! أنني أحيطك بذراعي حتى لا تتملص! ترفض عطفي؟
إنني أفهمك جيدا خلِّ بالك!” (الرواية، ص31).
خوف الأم وهلعها على وحيدها يجعلها تضغط عليه وتحذره أن يصرف نظره عن الموضوع. بعد سكت عمه الكبير وأقنع عمه العمدة بالسكوت، وعليه الا يقلب المواجع ولا يسأل الناس ويتحرى عن القاتل. العائلة مستاءة من كثرة كلامه، وابن عمه مصطفى يتساءل عن هدف حمزة بالضبط، وعبد الغني ابن عمه الآخر يتساءل: هل يريد أن يكون وكيل نيابة من منازلهم؟ ولكنه يرى أن مصلحته أن تتحقق العدالة فيستريح ضميره. وأن القضية لم تنته ولم تطو أوراقها في دواليب المحفوظات! (الرواية، ص 32)
طفل صغير
يبدو حمزة متمسكا بفكرته عن العدالة وضرورة التوصل إلى القاتل، ويرى في منطق أمه البسيط المفحم وعيا فطريا بالقدر، والقانون الأعلى والأشمل وهو العدالة الإلهية، الذي يؤمن به الناس عند المحن ومعاكسة الحظ وغموض الأحوال والأمور. إن المظلومين يرفعون أيديهم إلى السماء طلبا للرحمة والعدل. ومهما تأخرت عدالة السماء، فإنها أحيانا تكون أسرع كثيرا من بطء المحاكم الأرضية، وكثيرا ما تأتي فورا في الوقت المناسب (الرواية، ص 76)
حين تتأزم الأمور أمام حمزة يلجأ إلى أمه. ينام على ركبتها مثل طفل صغير يلتمس الحنان والعطف والراحة، وهو ما فعله عندما تزاحمت الأفكار في رأسه واسودت الدنيا في ناظريه، وبدا مستقبله في النيابة والقضاء سكة مظلمة مليئة بالحسك والأشواك السامة (الرواية، ص82).