منير القاضي
(وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر: 21)، (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) (العنكبوت: 43)، (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا) (الإسراء: 89)، (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) (الكهف: 54).
إنَّ الحديد بالحديد يُفلَح.
إشاصْ شاصْ والحِمَل حِمَل.
الأمثال لا تَغيُّر في مَضْرِبها عن حال مَورِدها.
إنّ صيغة (مَثَل) وما يشتق منها تنبئ عن معنى الحضور والظهور، وقد تدلّ على المشابهة والمشاكلة، تقول (مَثَل) الرجلُ بين يدي فلان، أي حَضَر لديه منتصبًا، و(مَثَل القمر) أي ظهر، و(ماثل فلانٌ فلانًا) أي شابهه، و(ماثل فلانًا بفلان) أي شابهه به، و(فلان مثلُ فلان) أي شبهه، و(ضرب له مثلًا) أي بيَّن له حجة ودليلًا، و(بسط له مثلًا) أي أوضح له حديثًا، ولا يخرج الدليل والحديث عن دائرة معنى الظهور. و(تمثّل الشيء) أي تصوّر مثاله -والمِثال صفة مقدار الشيء – ولا يخرج تصوّر الشيء عن معنى حضوره في الخيال.
و(المثل) في مصطلح الأدب هو القول السائر الممثّل بمَضرِبه، أي المشبهة حالة مضرِبه بحالة مورِده، أي الحالة التي كان قد ورد فيها القول، فهو استعارة تمثيلية مبنيّة على التشبيه المركّب، أي تشبيه الصورة المنتزعة من حالة المشبه بالصورة المنتزعة من الحالة التي كان عليها المشبّه به، على غرار قول بشار:
كأنّ مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليلٌ تهاوى كواكبه
وقد حصر علماء الأدب قديمًا وحديثًا الكلام (في المثل) بهذا المعنى الذي انتهينا من تفسيره، بحيث أصبح (المثل) عند الإطلاق لا يُقصد منه إلا هذا المعنى.
وقد جمعوا ما تيسّر لهم جمعه من الأمثال القديمة التي أصبح أكثرها لا يتبيَّن معناه إلا بشرحٍ قد يطول، كما أنّ أغلبها قد نفر من أنس الاستعمال، فاستوحش وصار غريبًا لا يألف أقلام الكُتّاب، ولا صحائف الكتب، ولا سطور الصحف.
وقد ألَّف فيها بعضهم كتابًا؛ مثل كتاب (الأمثال) للمفضل الضبِّي، وكتاب (مجمع الأمثال) للميداني. ونظمها بعضهم وشرحها في مجلد ضخم مثل كتاب (فرائد اللآل في مجمع الأمثال) للشيخ إبراهيم الأحدب الطرابلسي.
وقسم بعض أساتذة الأدب كلام العرب إلى منظوم ومنثور، والمنثور إلى مرسل ومسجوع، وإلى محاضرات وخطب وأمثال، وعرّفوا المثل بمثل ما سبق أن عرّفناه به.
ولا شكّ أنّ هذه التقسيمات مبنية على أوصاف يمتاز بها نوع من الكلام عن نوع منه، واعتبروا تمايز الأمثال عن غيرها من كلام العرب، بكونها عبارات موجزة لبعض الناس فشَت وسار استعمالها في المخاطبات والمعاتبات، لتصوير الحال التي ذُكرت فيه بالحال التي كانت قد أُنشئت وقِيلت فيه؛ وذلك إمّا لطرافة في الصورة التي يحملها المثل، وإمّا لأن تلك الصورة توحي إلى ذهن السامع ما لا تؤدّيه رسالة أو صحيفة أو سطور من تفسير أو إيضاح، أو معنى آخر يقتضيه المقام، وهذا هو معنى الإيجاز.
فالسامع عند ضرب المثل له ترتسم في ذهنه صورة حال مورده شارحة له حال مضرب المثل، فيفهم المعنى المقصود من الكلام بكلّ الدقة والوضوح فهمًا جامعًا شتى المتفرّقات، كما لو عرضت عليك صورة شخص لتعريفه إليك، فإنها تعرفه إليك وتحيطك به من حيثيته: المادية والمعنوية، بأكثر مما تعرِّفه صحف عديدة أو رسالة مسهبة. فإنّ المشاهدة تؤدّي في التعريف ما لا يؤدّيه التوصيف.
كلّ ما مرّ بحثه من خطة الأدباء في المثل صحيح مقبول مشكور، ولكنهم قد أغفلوا في كلامهم وتقسيماتهم نوعين من الأمثال يشتاق الأديب إلى البحث فيها، وتدوين ما يتيسر تدوينه منها:
الأول: أمثال القرآن الكريم، وهي الأهم علمًا، والأغزر فائدة.
والثاني: الأمثال العامية، وهي من نوع الأمثال التي جمعها السَّلَف من حيث الماهية والحقيقة، إلا أنها من وضع العامّة لم تراعَ فيها الفصاحة ولا البلاغة، فهي نوع من الأدب العامّي.
ولا شأن لنا في هذا المقال بالأمثال التي بحثَ فيها الأدباء جمعًا وشرحًا ثم نظمًا وتفسيرًا.
أمثال القرآن الكريم
المثل في القرآن الكريم ليس من قَبِيل (المثل) المصطلح عليه عند الأدباء المعرَّف عندهم بالتعريف السّالف الذِّكْر أو بما يساويه معنى، أو بما يعادله لفظًا ومعنى، ولا هو على غراره. وليس هو من النوع الداخل في تقسيم المنثور إلى الأقسام التي مَرّت الإشارة إليها آنفًا. بل هو نوع آخر أسماه القرآن الكريم (مثلًا) من قبل أن تعرف علوم الأدب (المثل)، ومن قبل أن تسمي به نوعًا من الكلام المنثور وتضعه مصطلحًا له. بل من قبل أن يعرف الأدباء (المثل) بتعريفهم الذي سبق ذكره. فقال في سورة البقرة: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) (البقرة: 26).
فالمثل بعُرْف القرآن الكريم هو الكلام الذي يقصد به تصوير حالة، أو واقعة، أو شخص، لاتعاظ القارئين والسامعين بالصورة التي صوّرها لهم، أو لإيناسهم بها، سواء أطال الكلامُ أم قَصُر، وأشاع وفشا أم بقي في لوحته اللامعة مكتوبًا محفوظًا.
وهذا الضرب من الكلام من أبلغ صور التشبيه المركّب، وأدقّ ما يرمي إليه البليغ من الوسائل التي تبرز المعاني الخفية المضمرة، سافرة الوجه، واضحة الملامح، جميلة المنظر. وإلى مثل هذا يقصد المصوّرون وأشباههم في وسائلهم الميسورة لهم؛ وبهذا يتفاوت مقامهم، وتباری مهارتهم.
وحسبك معرفة بفخامة هذا الضرب من الكلام أن جاءت به الكتب المقدّسة كاثرة في إيراده: (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) (الفتح: 29).
وحسبك علمًا بتأثيره في النفوس أنّ القرآن الكريم صدع بضرب الأمثال في كلّ مقام ومقال، وأنه في أوائل صحائفه المشرقة بنور الهداية بادر بضرب المثل، فإنه بعد أن قسم الناس في مفتتح سورة البقرة إلى متّقٍ مفلح، وكافر عنيد، ومنافق خاسر، ضرب مثلًا للمنافقين مصوّرًا حالتهم العجيبة، ما يخفون وما يبدون، وبسيرهم المعوج سير اليربوع في نافِقَائه، وبتردّدهم بين التظاهر بالإيمان وبين إبطان الكفر وإضماره، (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ)، وبحيرتهم في أمرهم وعدم استجابتهم لدعوة الحقّ، وبِجُبْنِهم وخَوَرِهم وخذلانهم، وبانصرافهم عن طريق الصواب وعن تدبّرهم ما يسمعون من الحكمة والموعظة أقول ضرب لهم مثلًا رَسَم فيه هذه المعاني الكامنة في نفوسهم رسمًا يكاد يلمس باليد، ويشاهد بالعين، فقال: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ {17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ {18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ {19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة: 17- 20).
وخصّ المنافق بالتمثيل دون المتّقي والكافر؛ لأنّ أمر كلّ منهما واضح، وطوية كلّ منهما معلومة صريحة، ذلك مُعْلِن إيمانه مُفْلِح، وهذا مُعْلِن كفره معانِد مُبْلِس، فكلّ منهما معروف الحال، مكشوف السيرة. بخلاف المنافق الحائر المحيِّر، المبطن للإنكار، المتستر بالإيمان، الخدَّاع البغيض، المتلوّن تلون الحرباء، الغامضة سيرته، الخبيئة طويته، فهو الحريّ أن ترسم صورته القبيحة، ويكشف عن وجهه البشع الدّميم؛ ليعرف بين الناس، فيتقوا شرّه، ويتجنبوا طرقه الملتوية، وعمله المنكر، وسيرته الشاذّة.
إنّ أمثال القرآن الكريم آيات بيّنات تُصوّر المعاني الدقيقة والحالات الغامضة، تصويرًا بارزًا تكاد تلمس معالمه. تبعث في النفوس فرحة، أو هيبة، أو إرشادًا أو كشفًا عن حقيقة، أو هداية إلى الرشد، أو نحو ذلك من المعاني الرفيعة التي توجّه النفوس إلى قِبلة الخير، ثم إلى تزكيتها وتطهيرها من أدران الجموح والغفلة، وتزجي في القلوب أنوارًا تنظر بها إلى عجائب الكون، فتقرأ سفر الوجود آيات بينات، وتدرك فلسفة العالم العميقة الغور.
فكلّ مثل من أمثال القرآن الحكيم يشرح للناس حقيقة من حقائق الاجتماع، أو ضربًا من عجائب الطبيعة، أو حُجّة دامغة لإثبات أمر انصرف عن إدراكه كثير من الناس، أُفِك عنه مَن أُفِك، وعاند فيه مَن عاند.
_________________________
المصدر: مجلة «المجمع العلمي العراقي».