الاختلاف بين الخلق سُنة كونية وطبيعة بشرية، وهي أعظم دليل على كمال الخالق، فقد جعل التنوع آية من آياته الدالة على عظيم قدرته، ولولا سُنة الاختلاف لاندثرت الخليقة، فهذا شعب قوي البنية يعمل في الأعمال الإنشائية الشاقة فيعمر الأرض، وهنا شعب بارع في الصناعات الجمالية كالنحت والتصوير، وهناك شعب برع في علوم التقنية.. إلخ..
فهم يكملون بعضهم، وليس لأحد أفضلية على آخر، فالخلق مفطورون على تعمير الكون بما يتناسب وفطرتهم، فرب العزة يهب الخليقة بمواهب، قد لا يعلم حكمتها إلا القليل؛ وهكذا في خلقه للبشر، تنوعت مواهبهم وقدراتهم، وهذا هو سر الوجود الذي يأمرنا خالقنا بأن نتفكر فيه!
وقد سقت هذه المقدمة لما وجدته ولمسته -في حال بعض المربين اليوم- من تعنت في توجيه أبنائهم يصل إلى حد تحديد كل شيء في حياة أبنائهم، وبالذات مستقبلهم العلمي، فمن لم يتخرج طبيباً أو مهندساً فلا حظ له في العلم! فالحياة وجه واحد، إذا انعدم هذا الوجه انعدمت الحياة! وللأسف، يحدث هذا من صفوة المجتمع ومن غيرهم ممن سار على نهجهم، من أجل الوجاهة الاجتماعية.
يجب أن نعلم أن العلوم تنقسم إلى ثلاثة روافد: علوم تجريبية؛ وهي المعنية بشؤون الحياة المدنية من طب، وهندسة، وتقنيات وغيرها، ثم العلوم النظرية؛ وهي المعنية بشؤون الفكر والثقافة كالتاريخ والجغرافيا، وعلم النفس والاجتماع وغيرها، ثم العلوم اللغوية وعلى رأسها اللغة العربية، بما فيها من نظام صوتي وصرفي ونحوي وبلاغي، وهي الأداة إلى فهم الوحي الإلهي؛ من أجل نقله للآخرين بلغاتهم الحية.
فإذن لا ينبغي أن ننظر إلى هذه العلوم بأنها ترف عقلي، وإلى من يرتاد هذه المجالات المعرفية الخصبة، بأن بضاعته كاسدة، وأنه قليل الفهم والعقل، ولولا ذلك ما اختار هذه المجالات.
وكثيراً ما يصطدم الطلاب بعد انخراطهم في الدراسة أن هذا النوع من الدراسة -الذي اختاره لهم أهلوهم- لا يناسب إمكاناتهم العقلية ولا النفسية، ومن ثمَّ يبدؤون في صراع العودة واللا عودة، فكثيراً ما نسمع عن طالب دخل كلية علمية ثم تحول عنها إلى كلية أدبية أو العكس، أو عاد ليختبر الثانوية، بعد أن أهدر وقتاً ثميناً في صراع التخصصات.
ما يجب علينا نحن المربين إدراكه قبل كل شيء، ومن ثمَّ نقله للآخرين، أن الحياة وجهان، وأننا نستطيع أن ننجح في الحياة، بأكثر من وسيلة، ودون أن نتصادم مع قوانين الكون وقواعده، فهي قواعد وضعها خالق الكون منذ أمد الآماد، فتنوع الخلق في مواهبهم وقدراتهم وإمكاناتهم النفسية والعقلية آية من آياته سبحانه، وشأن الإنسان أن يتسق مع إيقاع الكون العريض.
قرأت في الأخبار أن أحد الطلاب في إحدى الدول العربية شرع في الانتحار قبل ظهور نتيجة الثانويةً العامة، وفتاة أحرقت نفسها خوفاً من عار النتيجة! وآخر تناقش مع والده بسبب النتيجة ثم سقط من أعلى البناية، واضعاً حداً لحياته!
نعم الحياة تقوم على قانون السببية، فعلينا أن نأخذ بأسباب النجاح، ولا نفرط في شيء منها، بقدر طاقتنا البشرية، ووفق إمكاناتنا المتاحة، لكن علينا أن نعلم أن فلسفة النجاح قائمة في أصلها على الخسارة، فالأسد لا ينجح إلا في ربع محاولاته للصيد، أي أنه يفشل في 75% منها، وينجح في 25% فقط، ورغم هذه النسبة الضئيلة التي تشاركه فيه معظم الضواري، فإنه يستحيل على الأسد أن ييأس من محاولات الصيد! فقانون «الجهود المهدورة» قانون كوني؛ فلماذا يرفض الإنسان هذا القانون الكوني، ويعتبر عدم نجاحه في محاولة واحدة هو الفشل، أو أن عدم التحاقه بتخصصٍ ما هو الفشل؟!
والحقيقة أن الفشل الحقيقي هو التوقف عن المحاولة، وليس الفشل في المحاولة ذاتها، والفشل هو عدم فهم ذواتنا وتقديرها ووضعها في المكان المناسب، هناك أمثال سادت في مجتمعاتنا، ولها دور في خلق نوع من الإحباط والعجز النفسي ومنها قول المتنبي:
ما كل ما يشتهيه المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
هذا البيت يشعر بأننا يجب أن نقبل بالفشل والهزيمة، وأن كل محاولات الإنسان ربما توقفها الرياح، فيتقاعس عن الطلب، ولكن هل اشتهيت ما يناسبك قبل أن تبحر؟ هذا هو السؤال الذي لا بد له من إجابة؟
فكم مِن سفينةٍ عبرت البحر العباب دون أن توقفها الرياح، بل ساعدتها في المسير نحو الهدف.
قلت ذات مرة لإحدى صديقاتي وهي تعاتب ولدها عتاباً مراً، يصل لحد التنمر على ضعف درجاته في إحدى المواد الدراسية: الحمد لله الذي جعل أمي أميّة، لا تقرأ ولا تكتب، ولو كانت مثلكن لما كنت أنا اليوم، فلكم علمتني أمي أن الحياة لونان، وأن ما ضاع اليوم سيعود غداً، فلا تأسف على شيء ضاع منك، فيضيع ما بين يديك، فقوانين الحياة قائمة على الاستمرار مهما واجهتنا من صعوبات، فالصعوبات هي أصل الحياة ألم يخلق الإنسان في كبد؟!
وقفات
اصنع لك فلسفة كفلسفة الماء، إذا اعترض سبيله عائق إما أن يخترقه، وإما أن يغير مجراه.
لكي تكون ناجحاً في حياتك ارفع سقف طموحاتك إلى أبعد ما تستطيع، واخفض سقف توقعاتكِ إلى أقل ما تستطيع.
ليس من الضروري أن يكون أبناؤنا نسخاً متطابقة منا، أو من أبناء الآخرين، فنحن لم نكن نسخاً من آبائنا، فأرفقوا بأبنائكم، واتركوا لهم حرية اختيار ما يريدون من تخصصات، فالذكاء ليس كتلة واحدة، ولا ينصب في مهارة بعينها.
المربي الجيد هو الذي يكتشف المهارات وينميها، ويخلق في الطالب حب العلم بمختلف فروعه وروافده، ويصقل مواهبه، ويعينه على فهم قيم الحياة وقوانينها، وليس هو الذي يقيم الدرجات فقط، ففي الحياة مهمات كُثر، يحتاج الناس فيها لمختلف فروع العلم والمهن، فالنجاح الأكاديمي يمثل جزءاً من جدارات الحياة، ولا يعني بالضرورة كل جدارات الحياة.