في تطور أمني خطير وغير مسبوق، شهد لبنان، أمس الثلاثاء، سلسلة من التفجيرات التي استهدفت أجهزة اتصال لاسلكي «بيجر» يستخدمها عناصر «حزب الله»؛ ما أسفر عن مقتل وإصابة المئات.
في ظل هذا الحدث، تصاعدت الاتهامات ضد الكيان الصهيوني بالضلوع في هذه الهجمات التي أثارت حالة من التوتر في المنطقة، وأثرت على الوضع الأمني في كل من لبنان وسورية.
بينما ندد «حزب الله» بالهجوم، اعتبرت الحكومة اللبنانية أن ما جرى يشكل انتهاكًا لسيادة البلاد، وسط حالة من الاستنفار الأمني داخل دولة الاحتلال تحسبًا لأي رد محتمل.
تفجير غير مسبوق
أفادت «الوكالة الوطنية اللبنانية للإعلام» أن تفجيرًا غير مسبوق وقع في الضاحية الجنوبية لبيروت والعديد من المناطق اللبنانية، حيث استخدمت تقنية عالية لتفجير أجهزة الاتصال اللاسلكي المحمولة «بيجر».
و«البيجر» جهاز اتصال إلكتروني لاسلكي صغير ومحمول يستخدمه مدنيون وعاملون بالمجال الصحي وغيرهم للتواصل داخل مؤسسات أو ضمن مجموعات ومنظومات مختلفة، وهو يعمل ببطاريات قابلة للشحن ويستقبل رسائل مكتوبة واتصالات وإشارات صوتية وضوئية، وفق وكالة «الأناضول».
ويستخدم عناصر «حزب الله» أجهزة النداء الآلي (البيجر)، التي عفى عليها الزمن لعقود من الزمن بالنسبة لمعظم الناس في لبنان، في الاتصال ببعضهم بعضاً، بحسب موقع «سي إن إن».
ويشير تقرير لموقع «الجزيرة نت» أن جهاز «البيجر» يعتبر آمناً نوعاً ما من الاختراقات السيبرانية ومحاولات التجسس والتتبع الشائعة عند استخدام الهواتف المحمولة أو الذكية، ولهذا فهو لا يزال يستخدم في المجالات العسكرية والأمنية، وهذا على الأرجح السبب الذي يدفع عناصر «حزب الله» إلى امتلاك هذه الأجهزة.
ووفقًا لتصريحات وزير الصحة اللبناني فراس الأبيض، أسفر الانفجار عن مقتل 9 أشخاص، بينهم طفلة، وإصابة نحو 2750 شخصًا، أغلبهم من عناصر «حزب الله» في جنوب لبنان وضاحية بيروت الجنوبية.
في ظل هذا الوضع، دعا الأبيض كافة المستشفيات اللبنانية إلى استقبال جميع المصابين، بينما أكد الدفاع المدني اللبناني أن المستشفيات في الجنوب تجاوزت قدرتها الاستيعابية، مشيرًا إلى نقل الجرحى إلى خارج المحافظة نظرًا للعدد الهائل من المصابين.
«حزب الله» يتوعد
في بيان رسمي، حمّل «حزب الله» العدو «الإسرائيلي» المسؤولية الكاملة عن الهجوم الذي وصفه بـ«العدوان الآثم»، وأكد أن «العدو الغادر والمجرم سينال بالتأكيد قصاصه العادل، على هذا العدوان الآثم من حيث يحتسب ولا يحتسب».
وأشار إلى أن الأجهزة المختصة في الحزب تقوم بإجراء تحقيقات موسعة لمعرفة أسباب الانفجارات المتزامنة، كما دعا الحزب اللبنانيين إلى الحذر من الشائعات والمعلومات المضللة التي قد تُستغل في إطار الحرب النفسية.
من جانبها، أدانت الحكومة اللبنانية الهجوم، معتبرة أنه يمثل انتهاكًا خطيرًا للسيادة اللبنانية.
وفي تطور آخر، أعلنت السفارة الإيرانية في بيروت عن إصابة السفير الإيراني بجروح طفيفة، مؤكدةً أنه في حالة صحية جيدة.
وعلى الصعيد الدولي، نقلت شبكة «إيه بي سي» عن مسؤول أمريكي أن الهجوم طال أيضًا أكثر من 50 شخصًا في سورية ضمن سلسلة التفجيرات.
تفاصيل التفخيخ
في السياق ذاته، كشفت صحيفة «نيويورك تايمز» أن «إسرائيل» نجحت في تهريب أجهزة اتصال مفخخة إلى لبنان عبر صفقة تجارية مع شركة تايوانية.
ووفقًا للصحيفة، فإن هذه الأجهزة تم توزيعها على عناصر «حزب الله» وحلفائه في إيران وسورية؛ ما أدى إلى انفجارات متزامنة في مواقع مختلفة.
ونقلت الصحيفة عن مسؤولين مطلعين أن «حزب الله» طلب من شركة «غولد أبولو» التايوانية أكثر من 3 آلاف جهاز اتصال، وأضافوا أنه تم زرع مادة متفجرة صغيرة الحجم بجانب بطارية كل جهاز، وفق ما ذكر موقع «الجزيرة نت».
المعلومات ذاتها أكّدتها مصادر استخباراتية أخرى، مشيرة إلى أن دولة الاحتلال كانت تخطط لتفجير الأجهزة في حال اندلاع حرب شاملة لتحقيق تفوق إستراتيجي.
ووفقًا لتقرير نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال»، فإن الانفجار نتج عن شحنة جديدة من أجهزة الاتصال التي تلقاها «حزب الله» مؤخراً، بينما ذكرت تقارير استخباراتية أخرى أن العملية كانت ثمرة تعاون بين «الموساد» والجيش «الإسرائيليين».
وفي تصريح للصحفيين اليوم الأربعاء، أعلن مؤسس شركة «غولد أبولو» ورئيسها هسو تشينغ كوانغ، أن أجهزة «البيجر»، التي استخدمت في الهجوم ضد «حزب الله»، تم تصنيعها بواسطة موزع أوروبي للشركة.
وأوضح هسو أن شركته قد أبرمت عقدًا مع موزع أوروبي لاستعمال العلامة التجارية «غولد أبولو»، مضيفاً أن هذا الموزع، الذي فضل عدم الكشف عن اسمه، بدأ تعاونه مع «غولد أبولو» منذ حوالي 3 سنوات.
وأشار إلى أن الموزع الأوروبي، في البداية، كان يستورد فقط منتجات النداء والاتصالات الأخرى من «غولد أبولو». وفي وقت لاحق، أبدت الشركة الأوروبية رغبتها في تطوير جهاز نداء خاص بها وطلبت الحصول على الحق في استخدام العلامة التجارية التايوانية.
تأهب صهيوني
في الأثناء، أعلن جيش الاحتلال عن حالة تأهب عقب الهجوم، حيث عقد رئيس الأركان هرتسي هاليفي جلسة لتقييم الوضع الأمني مع قادة الجيش والمسؤولين في المؤسسة الدفاعية.
وبحسب المتحدث باسم الجيش، لم يطرأ أي تغيير على التعليمات الداخلية، لكن تم الدعوة إلى اليقظة التامة تحسبًا لأي تصعيد.
وألمح مسؤول عسكري صهيوني سابق إلى أن جيش الاحتلال نقل جهوده العسكرية من غزة إلى الشمال؛ ما أدى إلى صدمة لدى «حزب الله»، واعتبر أن هذا الهجوم يأتي في سياق إعادة التوازن العسكري في المنطقة.
اختراق استخباراتي ورسائل إستراتيجية
الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني إبراهيم المدهون أشار إلى أن الاختراق الأخير يُعتبر الأبرز من نوعه، ويُشكل تطورًا نوعيًا وخطيرًا يعكس التفوق التكنولوجي والاستخباراتي «الإسرائيلي»، الذي يُدعم بتعاون أمريكي.
ويرى المدهون أن هذه العملية بداية مرحلة جديدة من التصعيد، موضحاً أن «إسرائيل» تسعى من خلالها إلى فرض معادلات جديدة في المواجهة عبر ضربات غير تقليدية، بالإضافة إلى الاستهداف المباشر لعناصر القوة والاتصال لدى «حزب الله».
علاوة على ذلك، فإن الهجوم يحمل رسالة مفادها أن «حزب الله»، على الرغم من قوته العسكرية والبشرية، ليس بمنأى عن الاستهداف التكنولوجي الذي أصبح جزءًا أساسيًا من الصراعات الحديثة، يضيف المدهون.
في المقابل، أكد الكاتب والمحلل السياسي الأردني حازم عياد، في مقال له على موقع صحيفة «السبيل» الأردنية، أن المنطقة وصلت إلى طريق مسدود عسكريًا وسياسيًا؛ وهو ما يعني أن حرب الاستنزاف الطويلة أصبحت واقعًا يتعين التعايش معه، فقد أُغلق ملف الأسرى، و«حماس» لن يتم تدميرها، كما أن النازحين لن يعودوا إلى الشمال، ولن يتوقف «حزب الله» والحوثيون عن استهداف الكيان، بل من المتوقع أن يصعّدوا من هجماتهم.
ويشير عياد إلى أن أمريكا لن تسمح باندلاع حرب إقليمية واسعة، بل ستبقى حاضرة لاحتواء التصعيد وخفضه بين الحين والآخر، سواء بالقوة أو بالدبلوماسية؛ ما يعني أن المنطقة دخلت في حرب استنزاف طويلة، تتسم بكثرة الرهانات على التحولات العميقة أو التراكمية في موازين القوة، بينما تعيش المنطقة سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا على حافة الحرب الإقليمية واحتمالاتها المستقبلية.
في ظل تصاعد هذه الأحداث، يظل التساؤل قائمًا بشأن رد فعل «حزب الله» والموقف الدولي تجاه التفجيرات الأخيرة، بينما تستمر دولة الاحتلال في تعزيز استعداداتها، يبقى التوتر في المنطقة مرشحًا لمزيد من التصعيد؛ مما يثير القلق بشأن العواقب المحتملة لهذه العملية الأمنية غير المسبوقة.