يشتهر على ألسنة القصاص أن رجلًا ذهب إلى موسم الحج فوقف في مشهد من الناس وحسر عن ثوبه وبال في زمزم، فضربه الحجيج ولعنوه وسبوه، ولما سُئل: لِمَ فعلت هذا؟! فقال: لكي يعرفني الناس فيقولون: هذا الذي بال في زمزم(1).
وما أكثر البائلون في زمزم في زماننا الذي أصاب الكثيرين فيه هوسُ الشهرة ولو بالقبائح! وتلك الحالة مما تحتاج إلى دراسة اجتماعية عميقة، وهذه كلمات في سبيل تفكيك تلك الظاهرة ومعرفة أسبابها ومحاولة الإسهام في علاجها.
رصد الظاهرة
نتصور معاً رد فعل العامة تجاه هذه الحوادث إن حدثت قبل 20 عامًا من الآن:
– امرأة تخرج في التلفاز لتحكي تحديها لأثر أزمة نفسية سببتها فضيحة تسريب فيديو لها مخل بالأخلاق، وتقول: إنها أصبحت مرغوبة أكثر بعده!
– أب يدافع عن عري ابنته فيسأل عموم الناس مستنكرًا: هل يعاقب القانون على العري حتى تنكروه عليها؟!
– زوجان وثَّقا وأذاعا علنًا سبابهما لبعضهما أمام أولادهما، ثم وثَّقا كذلك تصالحهما!
– امرأة ادعت خيانة زوجها لها، فطلبت الطلاق أمام الملايين، ورد الزوج بالطبع عليها واتهمها هو الآخر؛ فتطلقا علنًا!
– أب يزدري ابنته وهي في عقدها الرابع من العمر ويحط منها ويشيع عقوقها له، وتخرج هي الأخرى تزدريه وتدعي إيذاءه لها!
– زوجان يكشفان مشكلاتهما الخاصة على مرأى ومسمع من الجميع، ويتطلقان بالفعل، ثم يرجعان بعدها بأيام يهونان من شأن ما ادعا من فظائع وأنهما قد تجاوزا ذلك ورجعا إلى الزواج!
– زوج يزوِّر حادثة اختطافه يوم عُرسه، ويصورها بالطبع لينشر الفيديو وكأنه حقيقي!
– شاب يبث فيديو ليوم عرسه وهو يخبر مَن ستكون زوجته بأنه يحب صاحبتها ويريد الزواج منها، ويطلبها إلى الزواج أمام الحضور، ثم يفاجئ التي صنع العُرس ليتزوجها فيخيرها بأن هذه مُزحة!
– زوجان يبثان حياتهما بكل تفاصيلها على عموم الناس، ويشاركان الجميع فيها، ويفرحان بتفاعل الناس معها إيجابًا أو سلبًا!
– رجل أو امرأة يرقصان رقصًا فاضحًا في ملأ من الناس في ظل ضحك الحاضرين وتصفيقهم!
حركة المجتمع مع هذه الظاهرة
هذه المواقف ليس من وحي الخيال؛ بل حدثت بالفعل وهي أشهر من أن تخفى على متابع، ولعل تتبع أمثالها أطول مما يمكن كتابته في كتاب لا مقال، فللقارئ أن يتصور حينها مدى احتقار عموم الناس لمن قد يفعل ذلك واعتبار فعله من الفضائح التي يجب أن تُطوى ولا تُروى، أما في زمن الـ«Trend» الذي نعيشه الآن فقد أصبح فيه طلب الشهرة ولو بهذه القبائح ظاهرة أقل عادية، بل مُتَفَهَّمةٌ -إن لم تكن مقبولة- يتفاعل معها عموم المجتمع أخذًا وردًا، ويتعاطف مع من يظنه قد ظُلم من طرفي المنازعات، ويصب جام غضبه على من يظنه الظالم، ويحق له أن يذيع رأيه فيما رأى ولو لم يكن محيطًا بأكثر تفاصيل الحادث، ولا يلتفت إلى إهدار صاحبه لكرامة نفسه وازدرائها في مقابل ما بلغ من شهرة!
ما تمليه الفطرة والأخلاق حيالها
وإن سليم الفطرة وحَسَن الأخلاق لا يستسيغ إهانة المرء لنفسه إلى هذا الحد المزري لأجل طلب الشهرة، فضلًا عن أن يصير عموم الناس في هذا الاتجاه إما عملًا به أو تفاعلًا معه، وإن الكلام عن معاني الستر والحياء والصدق وحُرمة العِرض وسلامة اللسان وغيرها من جماع الأخلاق ليصير غير ذا فائدة ما لم يقع على نفوس مهيئة لقبول معانيها، ولذا يجب البحث في معرفة سبب غياب هذه الأخلاق عن الحضور المجتمعي حتى صار نقيضها رأيًا عامًا هكذا.
والسبب بسيط؛ وهو أنه قد كثر الخبث إلى الحد الذي خفتت فيه أصوات المصلحين وعلت فيه أصوات المفسدين، وصارت قدوة كثير من الناس حياة الغربيين وأسلوب معيشتهم والتطلع إلى ما عندهم وتقليدهم في هذه القبائح فيما يناقض حياة المسلمين ودينهم وعاداتهم، فلا يجد صاحبه غضاضة في مصادمة الفطرة وأخلاق الإسلام؛ بل يراها تقدمًا ومدنيةً يلهث خلفها دون تقدير لأي عاقبة دنيوية أو دينية.
وإن الإسلام قد وجَّه بوصلة الحياة في مقاصدها ووسائلها، فالعلاج التمسك بهدي الإسلام وأخلاقه إجمالًا وتفصيلًا، ومخالفة جميع ما يصادم ذلك، وصنع رأي عام يزدري هذا الانحدار الأخلاقي المخيف، واستخدام ذات الوسائل الافتراضية والاجتماعية في إيصال هذا المضمون الراقي النظيف، والخوف على الجيل الناشئ على تلك المشاهد من أن يألفها فلا تنكرها فطرته ودينه وأخلاقه؛ فيعتنى به إلى الغاية.
وإنا لنعوذ بالله تعالى من أن تعمنا العقوبة إن لم نسعَ في تغيير هذه الحالة، فإن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: «ما من قومٍ يُعمَلُ فيهم بالمعاصي ثمَّ يقدِرون على أن يُغيِّروا ثمَّ لا يُغيِّروا إلَّا يوشِكُ أن يعُمَّهم اللهُ منه بعقابٍ»(2)، عافانا اللهُ والمسلمينَ خاصتهم وعامتهم.
_______________________
(1) القصة لا أصل لها في كتب السير، وإن نسبها البعض للمنتظم أو أخبار الحمقى والمغفلين -كلاهما- لابن الجوزي، ولكنها جرت مجرى قصص الأمثال فحُكيت على هذا الاعتبار، فليتنبه.
(1) رواه أبو داود (4338)، وصححه الألباني.