يؤكّد الطبّ الحديث بأنّ «جنون العظمة»، أو «البارانويا»، هو اضطراب نفسيّ وعصبيّ يقود لعمليّة تفكير تجعل المريض يشكّ بشكل غير منطقيّ، ويَشعر وكأنّه يتعرّض للاضطهاد، ويتوهمّ بخطر الإصابة الجسديّة حتّى لو لم يكن في خطر.
ويُشير بعض الأطباء إلى أنّ «جنون العظمة» قد يصيب الذين يعانون من الخرف، والذين يتعاطون المخدّرات، وقد يكون نتيجة لأعراض أمراض عقليّة ونفسيّة.
وتسمية داء «جنون العظمة» لا تتّفق مع أعراضه السلبيّة، ومنها شعور المريض بالظلم والاضطهاد والشكّ والوهم والخوف والمشاعر القلقة والضبابيّة وحبّ الانعزال والانهزاميّة وترك الواجبات والمسؤوليات.
والغريب أنّ «جنون العظمة» يصيب الرجال أكثر من النساء، رغم أنّ النظرة السائدة هي أنّ غالبيّة النساء مولعات بالمودة والتباهي وحبّ الظهور!
وغالبيّة طرق علاج «البارانويا» نفسيّة وروحيّة قبل أن تكون مادّيّة، وأبرزها المهدّئات البسيطة ومضادّات الاكتئاب.
والعجيب حينما يُذكر «جنون العظمة» يُتصوّر أنّ القضيّة هي حالة غرور سياسيّ لدى بعض الزعماء والقادة العسكريّين والمدنيّين من الأموات والأحياء ولكنّها، علميّا وواقعيّا حالة مرضية مشخّصة قبل أن تُنسب لعالم السياسة؛ ولهذا فإنّ النظرة العامّة الشائعة عن الداء وهي ليست دقيقة علمياً، بأنّه خاصّ بالحكّام، ليست صحيحة!
وربّما هنالك مَن يتساءل: هل «جنون العظمة» حالة مَرضيّة حقيقيّة أم هي مجرّد وصف يُطلق على الزعماء والقادة غير المنضبطين، الذين لا يهتمّون بالآخرين ولو كانوا من علية القوم، وينفّذون ما يريدون أو ما يرونه صحيحًا وسليمًا في رأيهم فقط؟
ويبدو أنّ «جنون العظمة» لدى الزعماء الذين أُصيبوا به نابعة من البيئة السائدة في الحكم، والظروف المحيطة التي تشجّعه للانفراد والدكتاتوريّة وتنفيذ خططه دون الالتفات لأيّ معارضة أو انتقادات داخليّة أو خارجيّة، وبالنتيجة تكون الدولة في مواجهة تداعيات تلك السياسات الطُّغيانيّة الارتجاليّة البعيدة عن الحكمة والدقّة والاستشارة!
والظاهر أن أوهام الساسة المصابين بـ«جنون العظمة» وغرورهم مختلف عن غرور بقيّة الناس؛ لأنّه نابع من السلطة، وعوامل الزهو بها، والضياع في أمواجها العاتية ومغرياتها المهلكة بعيداً عن الخرف والمخدّرات وغيرهما من الأسباب التي تُصيب عموم الناس الذين يعانون من «جنون العظمة»!
وداء العظمة في عالم السياسة ليس جديداً، بل هو قديم قدم ممارسة الإنسان للسياسة على الكوكب، وهنالك العشرات من «المجانين بالعظمة» ومنهم الإسكندر الأكبر، وجانكيز خان، ونابليون بونابرت، ونيكولاي تشاوشيسكو، وعيدي أمين.. وغيرهم من الجبابرة والعتاة والظلمة من الأحياء والأموات الذين وقعوا في شباك العظمة المهلكة!
والمعضلة أنّ «جنون عظمة» الزعماء والقادة لا تعود أضراره على الشخص المصاب، بل على ملايين الناس من الأتباع وغيرهم، ومن هنا يفترض أن تكون هنالك لجنة نخبويّة، صحّيّة وقضائيّة وبرلمانيّة، لمتابعة سلوك كبار المسؤولين في الدولة، وفقاً للدستور والقانون، وتحديد مدى صلاحيتهم للبقاء في مناصبهم، وبالذات تلك المناصب الحسّاسة التي تمسّ حياة الناس وسلامة الوطن.
إنّ الإعلام والجماهير والحاشية لهم دور كبير في زرع «جنون العظمة» لدى بعض المسؤولين، وبمرور الزمن تجد البلاد نفسها بمواجهة شخصيّة متعالية فكريّاً ونفسيّاً وحياتيّاً، وتعمل بموجب سياسة «ما أُريكم إلا ما أرى»، ومَن يوافق هذه السياسة يكون في المنطقة الآمنة وإلا فهو من المخرّبين والخونة والعملاء!
أما العلاج الأنجح لهذا الداء المهلك فيتمثّل في جملة خطوات، ربّما أهمّها وأسلمها هي الحاشية النّقيّة التي تعمل بصدق ووفاء مع المسؤول، ولا تُزيّف الواقع، وتكون بمثابة عينه على الواقع، وكذلك كفّ الناس عن سياسات المديح والتطبيل والتلميع للمسؤول، وأخيرًا دور الإعلام والنخب الدينيّة والمجتمعيّة في البناء وكشف الحقائق وتنقية الأفكار وتثقيف الشعوب.
لا تعينوا المسؤول على دخول عالم «جنون العظمة» ثمّ تتباكون على واقعكم!
وصدقاً: «كيفما تكونوا يولى عليكم»!
________________________
dr_jasemj67@