إذا كانت الأسرة هي اللبنة الأساسية في المجتمع، فإن شبكة علاقات أفرادها هي أساس هذه اللبنة، فهي تؤدي الدور المحوري في تشكيل القيم والمبادئ التي يتبناها أفراد الأسرة، بدءاً من الأب والأم وانتهاء بالأبناء، وعليه فهي «الترجمة العملية» لمنظومة القيم التي يعتقدها جميع أفرادها.
من هذا المنطلق، فإن الأسرة التي يغلب على أفرادها منظومة قيم نفعية لن تكون مترابطة بأي حال، وستكون العلاقات فيها أقرب إلى التعاقدية القائمة على تبادل المصالح المشروط وليس على التآزر والتضامن والمودة والرحمة، وهذه التعاقدية أصبحت سمة عصر الهيمنة الثقافية الغربية، التي تزن كل شيء بثمن، بما في ذلك علاقات الرحم.
لكن حضارة الإسلام، المستندة إلى الوحي، كمرجع رئيس لتوجيه العلاقات الأسرية، تضع مفهوم القيمة على التوازي مع مفهوم الثمن، فهي تقرر ابتداء أن هناك ما لا يقدر بثمن على سبيل الحقيقة لا المجاز، وعلى رأسها قيم علاقات الأسرة.
إن بناء العلاقات الأسرية على أسس مستمدة من القرآن الكريم والسُّنة النبوية الضمان الوحيد في الزمان الذي نعيشه في مواجهة طوفان الانجراف المادي، الذي يعمل على تسليع كل قيمة وتثمين كل خلق، في ظل طغيان المادية، التي هي جوهر حضارة الغرب والسبب الرئيس في تفوقه التقني وترديه القيمي في آن واحد.
فالإحصاءات التي تسجل التفوق الغربي في مجالات التقنية والعلوم هي ذاتها التي تسجل اتجاهاً متسارعاً نحو التناقص الديمغرافي نتيجة ضعف الإقبال على الزواج والإنجاب وزيادة نسب الشذوذ الجنسي وغيرها من الممارسات التي زينتها آلة الدعاية الشيطانية في بلدان التقدم، كما يحلو للمغترين بها أن يصفوها، والواقع أن من يتقدم هو المادة وقدرات تشكلها وإمكانات تحويلها، بينما يتردى الإنسان في هوة سحيقة من الضياع.
المدهش في هذا السياق أن جرس الإنذار الذي تقرعه مؤسسات غربية، منها صندوق النقد الدولي في تقريره الصادر في يونيو 2023م، يركز على خطورة الظاهرة من زاوية مادية أيضاً؛ لأن التناقص الديمغرافي يعني تشكل قنبلة سكانية مستقبلاً، تتمثل في تقلص القوى العاملة وبالتالي ازدياد الأعباء المالية على أنظمة الرعاية الاجتماعية؛ ما يشكل عبئا على الاقتصادات الوطنية!
وفي مقابل هذا التصور للإنسان والحياة يرسم دين الفطرة، الموحى به من الله تعالى، صورة أخرى لعلاقات أسرية قائمة على التراحم كأساس بين أفراد الأسرة، وعلى هذا النسق جاء التوجيه الإلهي في قوله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ) (الأحقاف: 15)، لتجعل من العلاقة مع الوالدين قيمة تمثل إطاراً فوق مستوى النفع أو الثمن، وعلى المنوال ذاته جاء توجيه الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام في قوله: «أحب الأعمال إلى الله الصلاة على وقتها، ثم بر الوالدين» (متفق عليه)، وقوله: «الراحمون يرحمهم الرحمن» (رواه أبو داود، والترمذي).
إن صدى إخراج علاقات الأسرة من دائرة المنفعة التي تحكم الإطارية المادية للحياة بات معترفاً بها حتى في دراسات مؤسسات البحث الغربية، ومنها دراسة أجراها باحثون في جامعة بريغام يونغ عام 2018م، توصلت إلى أن الأسر التي تضع إرضاء الإله في مركز حياتها تُظهر روابط أقوى بين أفرادها، لكن نتائج هذه الدراسات تظل حبيسة واقع يهيمن عليه المال وتطغى فيه لوبيات التكسب من إهلاك الإنسان!
كان سيد الخلق عليه الصلاة والسلام قرآناً يمشي على الأرض بهذا المعنى، فهو من يقف مع السيدة عائشة رضي الله عنها فقط لكي تكمل شغفها بمشاهدة الأحباش وهم يلعبون بالحراب في المسجد، وهو من يقبِّل حفيديه الحسن، والحسين، ويحنو عليهما وإن صعدا على ظهره أثناء الصلاة، وهو من يعالج الغيرة بين زوجاته بحكمة، وهو من يعامل خادمه باعتباره فرداً من أفراد الأسرة.
كم ابتعدنا عن هذه القيم وانجرفنا إلى ما أوقعنا فيه طغيان المادية في حياتنا، وقد حان الوقت لنعيد قيم ديننا مركزاً لحياة أسرنا، وممارسة ذلك عملياً عبر ممارسة شعائر وشرائع الدين بشكل جماعي، وهو ما يكفل قيمة البركة في شبكة علاقات الأسرة، التي لا تقدر بثمن ولا يعادلها رقم، فهي في جوهرها معنى التوفيق الإلهي، الذي يكتبه الله فقط لعباده المتقين.
ومن مظاهر هذا التوفيق أن تنعكس ممارسة الشعائر والشرائع جماعياً على الأسرة في شكل ترابط اجتماعي فريد، هو في الواقع ثمرة الالتزام بما أمر به الله، ولذا جاء التعبير القرآني بلفظ جعل في قوله تعالى: (وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم: 21)، فالأمر ليس مركباً كيميائياً ينتج عن خطوات صماء جامدة، بل مرتبط بتزكية النفوس عبر إخضاعها لما أمر به الله وصرفها عما نهى عنه.
هذه القيم تُعزز من بيئة أسرية صحية وتساعد أفرادها على التعامل مع صعوبات الحياة بشكل أكثر نضجاً واتزاناً، وإلا فإن طاحونة المادة لا تنتهي عند أفق، وهو عين ما حذر منه القرآن في قوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً) (طه: 124).
فالضنك ليس فقراً بالضرورة، بل قد يعيشه أكثر الناس ثراء لأنهم الأقل تزكية لنفوسهم والأبعد عن طاعة ربهم، وبالتالي فهم الأبعد عن قيم الحق والعدل والخير، وهو ما ينعكس لاحقاً عليهم في تربية أبنائهم وتطوير شخصياتهم.
إن دور الأسرة هو أساس تشكيل الهوية الاجتماعية، إذ تؤدي دوراً حاسماً في تشكيل هوية الأفراد وقيمهم، وعندما يتم بناء العلاقات الأسرية على أسس دينية قوية، فإن ذلك يعني بالتبعية تكوين مجتمع متماسك، ولذا فإن ظاهرة التفكك الأسري يجب أن نتعامل معها باعتبارها تهديداً وجودياً لمجتمعاتنا وليس مجرد ظاهرة اجتماعية كما يصفها المنظور الغربي.
فلا وجود لمجتمعاتنا إن تفككت الأسر، ولا بدائل يمكنها تعويض وحدة البناء الأساسية في المجتمع كما تزعم أبواق الجندر والأسر أحادية الجنس وغيرها من أفكار زخرف المادية الغربية الذي تتسارع به إلى هوة الفناء الذاتي تدريجياً.
إن بناء علاقاتنا الأسرية على أسس مستقاة من الوحي ليس مجرد واجب ديني، بل هو أيضاً ضرورة اجتماعية تعزز من استقرار المجتمع وتماسكه، لكن تعزيز هذه العلاقات يتطلب جهدًا جماعياً في تطبيق ما أمر به الله، والأساس في ذلك هو تزكية الأنفس.