الحمد لله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، أما بعد..
فقد سُرَّ المسلمون جميعاً بتلك النعمة العظيمة التي أسبغها الله على إخواننا في الشام بانتصار ثورتهم، وهروب الطاغية الفاجر الذي سامهم سوء العذاب؛ فجلب شُذّاذ الآفاق والمفسدين من كل حَدَبٍ وصوْب ليكونوا سياطاً يُلهب بها ظهور الناس ويسلبهم نعمة الحياة الآمنة المطمئنة؛ فسفك الدماء وولغ في الأعراض وجعل أعزة أهلها أذلة، ثم كانت العاقبة أن فرَّ عدو الله مذؤوماً مدحوراً، بعدما خلَّف وراءه جراحاً لا تندمل وضحايا لا يحصيهم العدُّ؛ فالحمد لله الذي قطع دابر القوم الظالمين، ونسأله سبحانه المزيد من فضله، وها هنا لا بد من التذكير بجملة من منازل العبودية التي تلزم إخواننا في الشام، وغيرهم من أهل الإسلام:
أولها: تجديد الإيمان بالله عز وجل الفعال لما يريد، الذي يقول للشيء كن فيكون، فهو سبحانه الرزاق ذو القوة المتين، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير؛ فما ينبغي للعباد –مهما طال بلاؤهم- أن تضعف ثقتهم في ربهم، بل عليهم أن يوقنوا أنه سبحانه لا يعجل لعجلة أحدنا، وأنه سبحانه يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
ثانيها: الكفر بكل طاغوت جبار عنيد؛ فهؤلاء هم أكثف البشر طباعاً وأخفُّهم عقولاً؛ بل هم خلْفُ فرعون، وهامان، وقارون، وأبي جهل؛ حيث يظنون أنهم مانعتهم حصونهم من الله؛ مغترون بما لديهم من قوة وأنصار، ثم في لحظة فارقة يكتشف الناس أنهم أوهى من بيت العنكبوت، وأنهم كانوا يعيشون أوهاماً لا حقيقة لها؛ وهذا الذي حصل مع طاغوت الشام وأجناده خير دليل؛ حيث تهاوت حصونهم وفر قادتهم قبل عامتهم؛ (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) (الحشر: 2).
ثالثها: إدمان الحمد والشكر لله الواحد القهار، الذي ينصر من يشاء ويخذل من يشاء؛ فالحمد لله كلمة كل شاكر؛ علينا أن نكثر منها سراً وعلانية، وأن ننسب الفضل له سبحانه؛ ولا ننسى أن صفوة البشر قد لهجت ألسنتهم بهذه الكلمة؛ فهذا نبي الله نوح عليه السلام حين يستوي على السفينة يقول: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (المؤمنون: 28)، وهذا الخليل إبراهيم عليه السلام يقول: (الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) (إبراهيم: 39)، وداود، وسليمان عليهما السلام يقولان: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) (النمل: 15)، وهذا محمد صلى الله عليه وسلم يقول: (الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ) (الإسراء: 111)، فالحمد لله على نعمه كلها ما علمنا منها وما لم نعلم.
رابعها: التواضع والإخبات لله تعالى؛ فهذه هي العبادة المطلوبة في لحظة الانتصار؛ أسوتُنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم الذي دخل مكة في جيش يسير كالسيل، ومع ذلك تواضع لعظمة ربه جل جلاله؛ فدخلها وهو راكبٌ ناقته ومطأطئٌ رأسه، حتى إن شعر لحيته ليمس واسطة رحله تواضعاً لله وشكراً، معظِّماً له ومكبِّراً، حين رأى ما أكرمه الله من الفتح.
ولا يمنعكم هذا من أن تفرحوا بالفتح المبين؛ (قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ) (يونس: 58)، لكن إياكم والزهو والكبر والعجب بالنفس.
خامسها: اعلموا، أهل الشام وفقكم الله، أن الأجر على قدر النصب، وقد عظم بلاؤكم لحب الله إياكم؛ فأنتم من اختاركم الله لتلقي ذلك البلاء العظيم تكفيراً لسيئاتكم وتكثيراً لحسناتكم ورفعة لدرجاتكم إن شاء الله؛ فاشكروا الله على نعمته، وتعافوا فيما بينكم؛ اقتداء بالنبي الأكرم صلى الله عليه وسلم الذي سأله أسامة ليلة «فتح مكة»: أين تنزل غداً يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «منزلنا غداً إن شاء الله بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر».
وكان خيف بني كنانة هو المكان الذي تحالفت فيه قريش ألا يبايعوا بني هاشم ولا يناكحوهم ولا يؤوهم، وحصروهم في الشعب، وقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم ذلك المكان ليتذكر المسلمون ما أصابهم من بلاء، فيشكروا الله على ما أنعم عليهم من الفتح العظيم، ومبالغة في الصفح عن الذين أساؤوا، ومقابلتهم بالعفو والإحسان.
ولا يمنعكم ذلك من إنزال العقوبة والنكال بأكابر مجرميها ممن ولغوا في الدماء وأسرفوا في القتل، وظنوا بالله ظن السوء، وهم من يسمون في اصطلاح أهل زماننا بـ«مجرمي الحرب»، ولكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة؛ فإنه رغم عفوه عن أهل مكة استثنى بضعة عشر رجلاً أمر بقتلهم وإن وجدوا متعلقين بأستار الكعبة؛ لأنهم عظمت جرائمهم في حق الله ورسوله، وحق الإسلام، ولما كان يخشاه منهم من إثارة الفتنة بين الناس بعد الفتح.