روى الترمذي وابن ماجه عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قال: لَمَّا قُتِلَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ يَوْمَ «أُحُدٍ»، لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «يَا جَابِرُ، أَلَا أُخْبِرُكَ مَا قَالَ اللَّهُ لِأَبِيكَ؟»، وفي رواية، قَالَ: «يَا جَابِرُ، مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟»، قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتُشْهِدَ أَبِي وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا، قَالَ: «أَفَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ؟»، قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي، تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ، قَالَ: يَا رَبِّ، تُحْيِينِي فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيَةً، فَقَالَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ: إِنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يَرْجِعُونَ، قَالَ: يَا رَبِّ، فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ {169} فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {170} يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران).
في هذا الموقف تقريب لمنزلة الشهيد وتحبيب في الشهادة في سبيل الله، وقد سلك الإسلام سبلاً متنوعة في غرس حب الجهاد والاستشهاد في نفوس معتنقيه، ومن ذلك ما يأتي:
1- التربية على التعلق بالآخرة:
غرس الإسلام في نفوس أتباعه حب الجهاد والاستشهاد، من خلال تزهيدهم في الدنيا وتفضيل الآخرة عليها، حيث أكد الله تعالى ففقال: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى) (الضحى: 4)، (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا {16} وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (الأعلى).
وجاء في صحيح مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أن رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين لقي المشركين في «بدر»، قَالَ لأصحابه: «قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ»، فقَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: بَخٍ بَخٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟»، قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا»، فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ، إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ».
2- بيان فضل الشهادة ومنزلة الشهيد:
يسهم في حب الجهاد والاستشهاد أن يستحضر المسلم فضل الشهادة ومنزلة الشهيد، وفي هذا يقول الله تعالى: (وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) (الحديد: 19)، وقال عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 111).
وروى ابن ماجه عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ: يَغْفِرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دُفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ، وَيُرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَيُحَلَّى حُلَّةَ الْإِيمَانِ، وَيُزَوَّجُ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ إِنْسَانًا مِنْ أَقَارِبِهِ».
3- التأكيد على تخفيف ألم الموت على الشهيد:
معلوم أن ألم الموت شديد، وسكراته عظيمة، وعندما أراد الإسلام أن يغرس في نفوس أتباعه حب الشهادة في سبيل الله بين أن الشهيد يخفف عنه هذا الألم، فلا يجد منه إلا كما يجد أحدنا من مس القرصة، فقد روى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أن رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ الْقَتْلِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ الْقَرْصَةِ»، والقرصة هي عضة النملة أو الأخذ بأطراف الأصابع.
4- النبي يرجو أن يموت شهيداً:
روى البخاري، ومسلم، عن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَلَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ».
كما بيّن صلى الله عليه وسلم أن الشهيد يحب أن يرجع إلى الدنيا ثم يموت شهيداً مرات متعددة لما يرى من كرامة الشهداء، حيث روى الترمذي عن أَنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه أن رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا غَيْرُ الشَّهِيدِ، فَإِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، يَقُولُ: حَتَّى أُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، مِمَّا يَرَى مِمَّا أَعْطَاهُ اللهُ مِنَ الْكَرَامَةِ».
5- مشاركة أسر الشهداء مشاعرهم ومواساتهم:
يعترف الإسلام بآلام فقد الشهيد داخل أسرته ولدى زوجته وأولاده، ولهذا أكد أن الشهادة تعود بالخير لا على الشهيد وحده؛ بل على أسرته أيضاً، فالشهيد يشفع في سبعين من أهله، ويضاف إلى ذلك أن أسرة الشهيد تحتاج إلى الدعم المعنوي والمادي، وقد حقق الإسلام ذلك، ففي الدعم المعنوي بين أن الشهيد في نعيم ما بعده نعيم، وفي هذا تسلية لذويه، يدل على هذا ما ثبت في حديث سيدنا جابر بن عبد الله وما لقي الله به أباه، وهو الحديث الذي بدأنا به المقال.
ومن أمثلة الدعم المادي أن الإسلام حث على كفالة أسر الشهداء، ويدل على ذلك ما رواه أحمد عن الحسن بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما استشهد جعفر أمهل النبي صلى الله عليه وسلم أهله 3 أيام، ثم ذهب إليهم، وقال لهم: «لا تبكوا على أخي بعد اليوم»، ثم قال: «ادعوا إلي بني أخي» وخاطبهم: «أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب، وأما عبدالله فشبيه خَلقي وخُلقي»، ثم قال: «اللهم اخلف جعفراً في أهله وبارك لعبدالله في صفقة يمينه»، ثم جاءت زوجة جعفر، فذكرت لرسول الله يُتم أولادها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم العيلة: «أي الفقر تخافين عليهم، أنا وليهم في الدنيا والآخرة».