لم يذكر القرآن الكريم العقل إلا في موضع التكريم والتعظيم، بل ساق القرآن الكريم العديد من الآيات بقصد التعقل والاعتبار، حيث تعدد الورود لقوله تعالى: «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» في كثير من الآيات القرآنية، منها قوله عز وجل: (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (البقرة: 73)، وقوله تعالى: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (البقرة: 242)، وقوله: (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الأنعام: 151)، وقوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف: 2)، وقوله: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (الحديد: 17).
بل جعل الإسلام تعطيل العقل سبباً في عذاب الآخرة، حيث قال تعالى عن أهل النار: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ {10} فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ) (الملك).
فإذا كان القرآن الكريم قد أعلى من شأن العقل ورفع قدره؛ فإنه جعل له حدوداً لا يتعداها، فإن التزم بها هُدِي إلى الصراط المستقيم، وإلا تاه في ظلمات الحيرة والتخبط والشك، ولهذا دعا الإسلام إلى التكامل بين الوحي والعقل، وقد رسم العلماء ذلك من خلال الارتكاز على النقاط الآتية:
أولاً: العقل تابع للوحي:
العقل مصدر من مصادر المعرفة الدينية، حيث أمر الله بإعماله، ودعا إلى توظيفه، إلا أنه ليس مصدراً مستقلاً عن الشرع، بل تابع له، ويحتاج إلى إرشاده وتوجيهه، كما أن الدين لا يمكن بناؤه على المعقول فقط، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لو كان الدينُ بالرأي لكان أسفلُ الخفِّ أولَى بالمسحِ من أعلاهُ، وقد رأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم يمسحُ على ظاهرِ خفَّيهِ(1).
فالدين لا يقوم على العقل، بل العقل تابع للدين، يقول الإمام السمعاني: وَاعْلَم أَن فصل مَا بَيْننَا وَبَين المبتدعة هُوَ مَسْأَلَة الْعقل فَإِنَّهُم أسسوا دينهم على الْمَعْقُول وَجعلُوا الِاتِّبَاع والمأثور تبعاً للمعقول، وَأما أهل السُّنة فقَالُوا: الأَصْل الِاتِّبَاع والعقول تبع، وَلَو كَانَ أساس الدّين على الْمَعْقُول لاستغنى الْخلق عَن الْوَحْي وَعَن الْأَنْبِيَاء صلوَات الله عَلَيْهِم، ولبطل معنى الْأَمر وَالنَّهْي ولقال من شَاءَ مَا شَاءَ، وَلَو كَانَ الدّين بني على الْمَعْقُول وَجب أَلا يجوز للمؤمنين أَن يقبلُوا شَيْئا حَتَّى يعقلوا.
وَنحن إِذا تدبرنا عَامَّة مَا جَاءَ فِي أَمر الدّين من ذكر صِفَات الله عز وَجل وَمَا تعبد النَّاس بِهِ من اعْتِقَاده وَكَذَلِكَ مَا ظهر بَين الْمُسلمين وتداولوه بَينهم ونقلوه عَن سلفهم إِلَى أَن أسندوه إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ذكر عَذَاب الْقَبْر وسؤال الْملكَيْنِ والحوض وَالْمِيزَان والصراط وصفات الْجنَّة وصفات النَّار وتخليد الْفَرِيقَيْنِ فيهمَا، أُمُور لَا ندرك حقائقها بعقولنا وَإِنَّمَا ورد الْأَمر بقبولها وَالْإِيمَان بهَا، فَإِذا سمعنَا شَيْئا من أُمُور الدّين وعقلناه وفهمناه فَللَّه الْحَمد فِي ذَلِك وَالشُّكْر وَمِنْه التَّوْفِيق وَمَا لم يمكنا إِدْرَاكه وفهمه وَلم تبلغه عقولنا آمنا بِهِ وصدقنا واعتقدنا أَن هَذَا من قبل ربوبيته وَقدرته واكتفينا فِي ذَلِك بِعِلْمِهِ ومشيئته(2).
ثانياً: لا تعارض بين النقل الصحيح والعقل الصريح:
إن العقل خلق الله تعالى، والوحي أمره، فمصدرهما واحد وهو الله عز وجل، وقد قال تعالى: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف: 54)، قال ابن تيمية: يَأْخُذُ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعَ دِينِهِمْ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلْعَقْلِ الصَّرِيحِ فَإِنَّ مَا خَالَفَ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ فَهُوَ بَاطِلٌ وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ، وَلَكِنْ فِيهِ أَلْفَاظٌ قَدْ لَا يَفْهَمُهَا بَعْضُ النَّاسِ أَوْ يَفْهَمُونَ مِنْهَا مَعْنًى بَاطِلًا فَالْآفَةُ مِنْهُمْ لَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ(3).
فأهل الحق جعلوا الكتاب والسُّنة أمامهم، وطلبوا الدين من قِبَلهما وما وقع لهم من معقولهم وخواطرهم، عرضوه على الكتاب والسُّنة، فإن وجدوه موافقاً لهما قبلوه، وشكروا الله عز وجل حيث أراهم ذلك ووفقهم إليه، وإن وجدوه مخالفاً لهما تركوا ما وقع لهم وأقبلوا على الكتاب والسُّنة ورجعوا بالتهمة على أنفسهم، فإن الكتاب والسُّنة لا يهديان إلا إلى الحق، ورأي الإنسان قد يرى الحق وقد يرى الباطل(4)، وعلى هذا فلا يمكن أن يتعارض صحيح النقل مع صريح العقل، وإذا وجد ما يوهم التعارض بينهما؛ فإن هذا قد يكون بحسب الظاهر، لا في الحقيقة، كما قد ينتج التعارض بسبب النقل غير الصحيح أو الفهم غير السليم.
ثالثاً: العقل له حد ينتهي إليه:
الكثير من مسائل العقيدة لا تدرك العقول حقيقتها وكيفيتها، وذلك كصفات الله تعالى وأفعاله، وحقائق ما ورد عن اليوم الآخر من الغيبيات، فالعقل عاجز عن إدراك هذه المسائل، بل هو مطالب فيها بالتسليم للنص الشرعي الصحيح، وإن لم يدرك الحكمة فيه، وفي هذا يقول ابن تيمية: مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ تَفَاصِيلِ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَمَرَتْ بِهِ مِنْ تَفَاصِيلِ الشَّرَائِعِ لَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ، كَمَا أَنَّ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ تَفْصِيلِ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ لَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَعْلَمُونَ بِعُقُولِهِمْ جُمَلَ ذَلِكَ(5).
وقال الشاطبي: إنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْعُقُولِ فِي إِدْرَاكِهَا حَدًّا تَنْتَهِي إِلَيْهِ لَا تَتَعَدَّاهُ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا سَبِيلًا إِلَى الْإِدْرَاكِ فِي كُلِّ مَطْلُوبٍ، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَاسْتَوَتْ مَعَ الْبَارِي تَعَالَى فِي إِدْرَاكِ جَمِيعِ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ، إِذْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ، فَمَعْلُومَاتُ اللَّهِ لَا تَتَنَاهَى، وَمَعْلُومَاتُ الْعَبْدِ مُتَنَاهِيَةٌ، وَالْمُتَنَاهِي لَا يُسَاوِي مَا لَا يَتَنَاهَى(6).
وقال ابن تيمية: الْعَقْلُ شَرْطٌ فِي مَعْرِفَةِ الْعُلُومِ وَكَمَالِ وَصَلَاحِ الْأَعْمَالِ وَبِهِ يَكْمُلُ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ؛ لَكِنَّهُ لَيْسَ مُسْتَقِلًّا بِذَلِكَ؛ بَلْ هُوَ غَرِيزَةٌ فِي النَّفْسِ وَقُوَّةٌ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ قُوَّةِ الْبَصَرِ الَّتِي فِي الْعَيْنِ؛ فَإِنْ اتَّصَلَ بِهِ نُورُ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ كَانَ كَنُورِ الْعَيْنِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ نُورُ الشَّمْسِ وَالنَّارِ، وَإِنْ انْفَرَدَ بِنَفْسِهِ لَمْ يُبْصِرْ الْأُمُورَ الَّتِي يَعْجِزُ وَحْدَهُ عَنْ دَرْكِهَا(7).
_____________________
(1) عون المعبود: العظيم آبادي (1/ 139).
(2) الانتصار لأصحاب الحديث: السمعاني، ص 82.
(3) مجموع الفتاوى: ابن تيمية (11/ 490).
(4) صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام: السيوطي، ص 219.
(5) مجموع الفتاوى (3/ 115).
(6) الاعتصام: الشاطبي (2/ 831).
(7) مجموع الفتاوى (3/ 338).