الكتاب النفيس الذي كان يجب أن أطلع عليه وأنتفع به ولا أتأخر حتى اللحظة، إنه كتاب “من أيام العمر الماضي” للمفكر السياسي والثائر والداعي والصادع بالحق وبما يقتنع به د. عبدالله النفيسي حفظه الله.
الكتاب النفيس الذي كان يجب أن أطلع عليه وأنتفع به ولا أتأخر حتى اللحظة، إنه كتاب “من أيام العمر الماضي” للمفكر السياسي والثائر والداعي والصادع بالحق وبما يقتنع به د. عبدالله النفيسي حفظه الله.
لكل مسمى من اسمه نصيب؛ فهو عبدالله، ووالده فَهْدٌ، ومن عائلة نفيسة؛ فسبحان الله الذي قدّر فهدى!
لم أكن أعلم أنني حين اتصلت بأستاذنا المستشار أبي مصطفى عبدالله العقيل مطمئناً على صحته ومستأذناً زيارته، إنه كان يهم وقبل دقيقة واحدة فقط الاتصال بي ليهديني كتاباً حظي بثقته، وأراد أن يخصني به، فسبحان الله الذي يعلم السر وأخفى! فنحن لم نكتشف من أسرار النفس الإنسانية إلاّ القليل.
وكم قرأت من كتب المذكرات للأشخاص التي حوت خيراً عميماً، لكن هذا الكتاب كان متميزاً جداً متفوقاً على معظم ما كتب في ميدانه، فهو من القليل ممن كتبوا في هذا المجال وبعض المجربين المميزين في رحلات أعمارهم.
لم أجد في الكتاب الذي لم يزد عن مائة وسبعين صفحة من القطع المتوسط الكثير عن حياته الخاصة كما يكتب البعض عن مولده ونشأته وأولاده وسفره ورحلاته وصحته وأصحابه..
إنما اختار من السنوات المباركة في عمره بعض مواطن العبرة والفائدة والتأسي التي لا تخدم الأفراد فقط، إنما الجماعات والأحزاب والدول بل والإنسانية.
كنت أظن أن هذا الرجل الجريء الصريح القوي في الحق الذي كنت أراه عن بعد شديداً غليظاً عبوساً؛ فإذا به رقيق القلب حنوناً.
وجدته متواضعاً غاية التواضع، وإن كان هو الطالب الشاب الكويتي الميسور المبتعث على حساب الوزارةن فهو لا يقدم رجله أمام ماسح الأحذية احتراماً له؛ مما لفت نظر الرجل كبير السن المعتاد على مهنته فحاوره طويلاً.
كان يلحظ وهو في صباه وعلى صغر سنه وهو يدرس في كلية “فكتوريا” في مصر غايات الإدارة الإنجليزية في المدرسة ورسالتهم في البلدان العربية، وقارنها بالإدارة المصرية فيما بعد، ويذكر مواقف محددة لاحظها بحسه الوطني حيث يمنع هو من الإحسان للجنايني المصري الفقير من قبل إدارة الكلية، ويمنع الطلبة من التحدث باللغة العربية والاختلاط بعامة الناس.
لاحظ عدم وجود مصلى للكلية؛ مما أجبر بعض الطلبة للصلاة في “عريشة” مجاورة مع أستاذهم د. يوسف عبدالمعطي قبل أن تتبرع الحكومة السعودية ببناء مسجد هناك.
ولخّص ذلك بقوله العميق المبصر: إن الإنجليز كانوا يهدفون لتحقيق تطبيع ثقافي بين الطلبة العرب والمسلمين مع القيم الغربية، وتخريج نخبة منفصلة عن محيطها العربي والإسلامي نفسياً وثقافياً.
ويعيد لك في ذكرياته مصطلح البلطجي أو البلطجية الذي اشتهر مؤخراً لإعاقة مسيرة “الربيع العربي”، وكيف تعامل مع طالب عملاق لا يقف أمامه جمع من الطلبة.
ما أحتاج إلاّ اثنين فقط من رفاقه العاديين المنهزمين في العادة أمام جبروت “البلطجي”، ورأى أنّ المسألة سهلة جداً مع التصميم والإرادة، أحدهم أمسك بيديه، والآخر أمسك بقدميه، وأما المفكر الثائر فهشم أنفه بزجاجة، وتركوه يحصد ما زرع، وإن كان فارسنا قد فصل من الكلية فقد استراح جميع الطلبة من هذا “الغول” وإلى الأبد، وشعر هو بالراحة الغامرة، فقد انتصر من ظالم متكبر في يوم “العروبة”.
أما موضع العبرة الذي أورده فهو التدليل على فائدة المبادأة والجرأة والتصميم، وكيف تُحول الضعف قوة، والهزيمة نصراً فيقول: تسللت للكلية بعد فصلي من أبواب خلفية لأرى زملائي وأتابع ما درسوه، ولمحت البلطجي وخشيت أن يراني وإذا به يسير مع الطلبة بهدوء كأي واحد منهم ويتوارى عني حتى لا أراه.
ثم يقول: وأما أنا فبعد تدخل بعض الأخيار رجعت إلى الكلية، ولم يفتني شيء والحمد لله، وكأنما يقول لنا بعد خالد بن الوليد رضي الله عنه: فلا نامت أعين الجبناء.
لكنه يقرر أنّ البلطجة منهج مستقر عند غياب الحريات العامة والديمقراطية وسلطة الشعوب؛ فيعبر عن المرارة بسبب البلطجة الرسمية في عهد الإدارة المصرية للكلية بعد العدوان الثلاثي على مصر، وطرد الإدارة الإنجليزية فيقول: جمعوا الطلاب وأخذوهم لساعات طويلة للاستماع لخطبة الرئيس – “عبدالناصر – وبعد أيام جمعوا العمال والسفرجية من أجل انتخاب قائمة الحكومة!
لا يغيب عن بال النفيسي الحر ولا يمحى من ذاكرته مرارة الاعتداء على الحريات العامة، حتى لو لم تكن على الشخص ذاته.
فيورد قصة كلب صاحبة الفندق البريطانية الذي يطوف على الشباب لاهثاً ماداً لسانه وهم يتناولون الطعام، فلما نهره ارتكب “جريمة كبرى” أدت إلى خروجه ومغادرة الفندق، فكلب السلطان سلطان.
كما يتذكر كيف عوقب على نشر كتابه “الكويت والرأي الآخر” بمنع دخول الكتاب، وبسحب جواز سفره ومنعه من السفر، وتجميد حقوقه المدنية لمدة خمس سنوات، مع أنه كان رئيساً لقسم العلوم السياسية في جامعة الكويت.
لم يتردد في بيان الحكم الشرعي في صرف المال للأمراء وأبنائهم ومنع احتكار الأراضي، وتوفير تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، لكنه – كما يقول – لم يكن حديثه من باب التحريض، إنما من باب الأمانة الفكرية والنصح والتوجيه ونقل الحكم الشرعي، وقد كان يعلق على موقف أمين الأمة أبي عبيدة عامر بن الجراح من الخليفة أبي بكر الصديق عندما تولى الخلافة وخرج في الصباح ليبيع القماش فرده وفرض له ما يكفيه وعياله فلا يصح الجمع بين الإمارة والتجارة.
وكذلك رفضه حضور حفل التخرج من جامعة “كامبردج”؛ لأن الملكة سترعى الحفل تكريماً وحفاوة، ويتبادل فيه شرب نخب النجاح بين الحاضرين؛ فقرر أن يستلم شهادته من الكلية.
ولما فكر في كتابة رسالته العلمية للتخرج؛ استشعر المسؤولية الوطنية وهو يدرك الخطر الواقع على الكويت الدولة الصغيرة وهي التي تتأثر بالعراق وإيران؛ فكانت رسالته بعنوان دور الشيعة في تطور العراق السياسي، وتحمل في سبيل ذلك المشقة وركوب الأخطار.
كان عروبياً إسلامياً إنسانياً يعيش لرسالة سامية، اختار أن يصبر نفسه “مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه”، خرج فجأة استجابة لنداء أحد إخوانه من قاعة الدرس ليحمل رسالة من بيروت إلى الكويت، ليسلمها لأبي مصطفى العقيل، ليسلمها لوزير الدولة الكويتي (يوسف)، ليقدمها للشيخ جابر الأحمد من أجل التوصية بالإفراج عن فتحي يكن، وعصام العطار، وسعيد العيار في لبنان، وفعلاً تم ذلك، حتى وإن تعرض لتهديد الدكتور الذي خرج من محاضرته.
ولما طلب أحد أساتذته من كل طالب اختيار شاعر مشهور للكتابة عنه؛ اختار هو أن يكتب عن شاعر مغمور وليس مشهوراً، واستشار بذلك أستاذه؛ فأرشده إلى شخص مغمور فعلاً كأنما وقعت عليه كل هموم الدنيا يعيش مع القطط يطعمها وحيداً بلا زوجة ولا ولد، يرافق السجائر بنهم فينقله “النفيسي” من حالة البؤس والانعزال إلى العمل المجتمعي الخيري؛ فيتزوج ويأتيه الولد ويلتقيه بعد سنوات وإذا به شخص آخر.
أما قصته مع بائع “ربطات العنق” وتعلقه به، وإذا به قائد السرب الجوي المصري اللواء عبدالمنعم عبدالرؤوف الإخواني الذي أجبر الملك فاروق على التنازل عن الحكم، وفي لقائه معه وزيارته له عشرات المواقف ولا يفوته أن يذكر لك وليمة العشاء التي دعاها له اللواء وما فيها من عبر ودروس.
وكان أبرز ما فيه استخلاصات بخطر استلام العسكر للحياة السياسية المدنية.. العسكر يفقدون شرف المهنة العسكرية إذا دخلوا مجال السياسة بل ويدمرون البلاد والعباد.
ويقول: التفت الطحالب السياسية على جذوع الثورة فخنقتها وحولتها إلى نادٍ مغلق لا يتمتع بعضويته إلا “الأرزقية”؛ بمعنى المسترزقين، (أظنه نحتاً جديداً خاصاً بالنفسي حفظه الله).
وعن فلسطين (والشرعية الدولية المدعاة) حيث يقول: وما المقصود من تلك المؤسسات الدولية إلا إطالة عمر الظلم العالمي الفادح الذي تتحمله الشعوب المستضعفة، ومنها الشعب الفلسطيني؛ لأن سياسة القوة هي السائدة في العالم.
وعن تفاعله مع القضية الفلسطينية وهو في الاغتراب فيذكر أنه قال لأستاذه: أريد أن أمارس عملاً نافعاً لفلسطين، ولا أريد اجترار الكلام والتنظير فانخرط في عمل تطوعي دائم، وأصدر مع عدد من زملائه نشرة البلاغ التي نشروا في أول عدد منها خطر اليهودية على الإسلام، ومؤامرة فصل جنوب السودان عن شماله.
يفكر بعقل جمعي عام حتى يستنصحه قادة في الإمارات بعد تشخيصه للمشكلة، وهي قلة عدد السكان الإماراتيين العرب عندما كان يعمل في جامعة العين التي أحبها فنصح باستبدال العمالة الوافدة ليحل محلها اليمنيون العرب المسلمون بحيث تستقدم الإمارات عشرين ألفاً في كل عام ولكن..
وأمَّا عن الكويت قبل الغزو فيقول متألماً متحسراً ويؤصل قواعد كلية في المسألة، ومنها:
1- إن تغييب صوت الشعوب وبخاصة في الأزمات والانفصام بين الحكومة والشعب هو الخطر الأعظم؛ إشارة إلى حل مجلس النواب الكويتي قبل غزو العراق للكويت.
2- يقول معترفاً وبصراحة: نصحتهم أنه في حال الصراع بين دولتين كإيران والعراق سيكون الانعكاس الأشد والأخطر على الشريك الأصغر (الكويت) لكنهم لم يسمعوا.
ويقول في هذا السياق: لا بد من الموازنة بين متطلبات الأمن الوطني ومتطلبات الحياة الديمقراطية.
ويقول: عند الحكومة إمكانات وليس لديها تصورات، وعند المعارضة تصورات وليس لديها إمكانات.
ويقول: بعد حل مجلس النواب الكويتي أثناء حرب الخليج 3/7/1986م اتفقنا مع مجموعة نواب المعارضة بأن نعقد اجتماعاً دورياً أسبوعياً لإدامة الاتصال بالناس في مواقعهم وحثهم على المطالبة بحقوقهم الدستورية، لكن لم يتح لنا ذلك، بل واعتقلت على أثر ذلك، ومنعت من الخروج لصلاة الجمعة؛ فصليت الجمعة مع ثمانية أشخاص ضابط المخفر والشرطة، وخطبت فيهم وشرحت سورة “العصر”، وشرحت الآية “إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين”، ودعوت على الظالمين؛ فامّنوا خلفي وللأسف نقلوا جميعاً لهذا السبب.
أما ما وجدته في مذكراته وكان الأهم والأنفع والأقرب لاهتمامي يقول:
1- بطبيعتي أَميلُ إلى الشخصية الحركية الحارة، ولا أحْمِلُ كثيراً من الاحترام للشخصية الباردة غير المتفاعلة تحت ما يسمى بالتريث والحذر والتأني.
2- أهمل الإسلاميون إلى حد بعيد العملية الفكرية أو التربية الفكرية، وهم يركزون على القيم وليس على نظام المفاهيم؛ ولذلك كَثُر فيهم الخطباء وقلَّ المُفكِرون، وحرصوا على الحشد العاطفي لا التوجيه الفكري.
3- يقسم المجتمعات إلى أربعة مستويات:
أ- مستوى الفئة الحاكمة.
ب- مستوى الفئة الساعية للحكم الوزراء والأمناء العامون و..
ت- مستوى الفئة القلقة (الأحزاب ورجال السياسة والاقتصاد).
ث- مستوى الفئة غير القلقة (المستريحون) وهم عامة الناس الذين لا يهتمون إلا بتكاليف الحياة.
فيقول: إنّ جمهور الإسلاميين من القاع الاجتماعي يوجهون خطابهم للفئة الرابعة، والأصل أن يوجه الخطاب للفئات الأعلى أيضاً كالفئة (القلقة).
ويقول: إنّ هذه الفئة غير القلقة في الغالب مع كل الاحترام هي كالسمنة الزائدة في الجسم، فهي عبارة عن حمولة مكْلِفة إدارياً ومالياً وثقافياً وسياسياً على الحركة الإسلامية.
كما أنه يسهل اختراقها أمنياً، بل وأكثر من ذلك التحكم بحركتها عن بعد.
وينتقد الحركات الإسلامية بقوله:
1- الحركات الإسلامية تؤمن بالحلول الصفرية للمشكلات، فإما أن يتحقق ما ترى 100%، وإلا فلا، وهذا يقلل الأصدقاء ويكثر الأعداء.
2- استئناف الحياة الإسلامية لا يتم بقرار سياسي فوقي، أو بقرار تشريعي، حتى لو حقق الإسلاميون أغلبية في الانتخابات النيابية، فقد تتمكن من التعبير عن الآلام والإشكاليات، لكن حتماً لن تحل مشكلاتها، بسبب الهيمنة العالمية الخارجية على الشعوب.
3- ويقول: إن الحركات الإسلامية سقطت في حفرة القطرية، بينما تجد الاشتراكيين في العالم يجتمعون سنوياً في النمسا من أطراف العالم لتنسيق عملهم.
4- يمكن استدراجها – لغيرها – للحروب بالوكالة (ware by proxy)، فكما استخدم “عبدالناصر” اليسار لمحاربة الإخوان المسلمين، استخدم “السادات” الإخوان لمحاربة اليسار تحت شعار “فُخّار يكسّر بعضه”!
ويقول مخاطباً الجميع: وما لم يترشَّد العمل السياسي العربي الشعبي سيبقى الجميع في دوامة الحروب بالوكالة التي يخسر فيها الجميع، ويربح فيها كل نظام فردي مستبد، ويربح العدو الصهيوني وقوى الشر في العالم.
طال الحديث ولم أستطع أن أستخرج من درر الكتاب الكثير، فهو بحر عميق، ولكل صياد نصيبه.
ولم يطل حديث الكاتب، ولم يستكمل رسائله، وقد وعد بإصدار آخر ننتظره.