مع تكبيرات المآذن وصدى التهليل والتحميد، هبت جموع الشعب التركي من مراقدها، وخرجت في شوراع البلاد دفاعاً عن الشرعية والحكومة المنتخبة، خرجت رجالاً وعلى كل سيارة، وعلى شاشات التلفاز تلمح كل أطياف محبي الوطن ومن كل الأعمار، وفي ساعات الليل المتأخرة.. لا أنسى ذلك الرجل الذي حمل طفله الصغير على كتفيه والطفل يحك إحدى عينيه بيده يبعد عنها النعاس.
استطاع الشعب التركي العجيب أن ينتزع إعجاب العالم بشيء غير مسبوق في التاريخ، ويندحر عسكر الانقلاب أمام إرادة شعب مسلم أبيّ. لكن الشعب وهو العامل الرئيس لم يكن وحده، فما هي أسباب فشل الانقلاب التركي، وكيف تراه عيون الصحافة البريطانية؟
صلابة الرئيس:
كانت صلابة الرئيس طيب أردوغان، وحثه الشعب على الخروج هي سر نجاح العملية الشعبية، لِمَ لا وهو الرئيس المنتخب من الملايين وحزبه هو الحزب الكاسح بالأغلبية.
خروج الشعب:
خرج الشعب التركي –حسب ما أرى- لسببين:
أولهما: ما عانى منه الشعب من جراء الانقلابات السابقة. فمنذ قيام جمهورية أتاتورك، وقعت خمسة انقلابات عسكرية رئيسة قام بها الجيش التركي: أعوام 1960م، 1971م، 1980م، 1997م، ثم 2016م. وكانت الانقلابات تحاول تغيير حكومات منتخبة لحماية النظام العلماني. وهذه الانقلابات تبرز حدة الصراع العلماني الإسلامي في تركيا، ففي 1997م اضطر رئيس الوزراء نجم الديم أربكان إلى الاستقالة قبل أن يصل الجيش بدباباته إلى مقر الرئاسة، وكان أربكان قام خلال العام الذي تولى فيه رئاسة الحكومة بإجراءات تنم عن رغبته في تغيير بعض المعالم الأساسية في النظام العلماني.
لا زال الشعب يشم رائحة دموية انقلاب 1980م والذي أيدته أمريكا. وخلال الحكم العسكري تم إعدام 50 شخصاً، واعتقال 650 ألفاً، ومحاكمة الآلاف، ووقوع 300 حالة وفاة بسبب التعذيب، وفضّل 30 ألفاً المنفى، بعد أن اختفي الكثيرون.
ولقد تمكن حزب العدالة والتنمية من تعديل عشرات المواد من دستور هذا الانقلاب الغاشم بما فيها حصانة العسكر.
ثانيهما: ما قدمه حزب أردوغان من عدالة، وتنمية في المجال الاقتصادي. وقد أبهرت التجربة التركية العالم ، والتي أدت إلى نمو اقتصادي في ظل الأزمة العالمية، ونجحت تركيا في تسديد كامل ديونها الخارجية، وخلقت أكثر من ستة ملايين فرصة عمل خلال الفترة الماضية.
قال أحد كبار مستشاري الرئيس، إلنور سيفيك: إن الانقلاب فشل بفضل إرادة الشعب التركي.وأضاف: إن “من الواضح جداً أنه كانت هناك محاولة انقلاب لكن سرعان ما تحول الوضع لصالح الحكومة، وطلب أردوغان من الشعب النزول بأعداد كبيرة إلى شوارع أنقرة وإسطنبول وهذا ما قاموا به“. وقال: إن الشعب التركي هو الذي استعاد السيطرة على مطار أتاتورك من الجيش، والشعب هو الذي استعاد السيطرة على التلفزيون والإذاعة الحكوميين من الجيش.
صور:
رجل ينام بجسده أمام دبابة ليمنعها من الحركة، مجموعات من الشعب تدفع بأيديها إحدى الدبابات لتندحر إلى الوراء، أفراد يتسلقون إحدى الدبابات ليمنعوا من فيها من التحرك، شجاعة وحب للوطن وأعلام حمراء بهلال ونجمة ناصعي البياض هذا سلاحهم .
الإعلام والمعارضة والشرطة:
ومن الأسباب اجتماع الإعلام التركي، حتى المخالف للحزب الحاكم، على رفض المحاولة الانقلابية، وجعلوا الوطن وكرامته وحريته فوق الاختلاف السياسي!
كما تحركت الشرطة والقوات الخاصة لولائها للحكومة وللدستور وليس للانقلاب والتغيير أيا كان، ووقف رؤساء الأحزاب المعارضة ونواب البرلمان وقفة رجل واحد لحماية الديمقراطية ونبذ حكم العسكر!وقال فادي هكورة من معهد تشاتام هاوس في بريطانيا: إن الانقلاب لم يكن وفق المعايير الاحترافية، وفشل في استقطاب دعم عسكري واسع، كما لم يحظ بالدعم السياسي أو بدعم أفراد الشعب، وقال حزب الشعب العلماني: إن تركيا شهدت في السابق ما يكفي من الانقلابات ولهذا لم تكن راغبة في “تكرار هذه الصعوبات”. ووقف الحزب القومي التركي أيضاً خلف الحكومة في مساعيها لإحباط الانقلاب.
من وراء محاولة الانقلاب؟
اتهمت الحكومة التركية (فتح الله غولن وجماعته) بأنهم وراء محاولة الانقلاب، وإن كانت الحركة الذي يعيش زعيمها في أمريكا نفت ذلك. والحركة أو الجماعة الذي أسسها غولن عام عام 1970م توسعت داخل وخارج تركيا، توصف بأنها حركة تربوية اجتماعية صوفية. وكانت قفزتها الكبيرة بعد انقلاب 1980م حيث استفادت من دعم حكومة الانقلاب. وتدير الحركة 15 جامعة منتشرة في أكثر من 140 دولة وأكثر من 1500 مؤسسة تعليمية.
ولها وكالة (جيهان) للأنباء، وست قنوات وثلاث إذاعات. وتمتلك (بنك آسيا). الجماعة متهمة بأنها تهدف إلى تمييع التدين والتركيز على الجانب الصوفي. وغولن يرى: “أن الإسلام ليس أيدلوجية سياسية أو نظام حكم أو شكلاً للدولة”. وتتهم بأنها كيان مواز يتغلغل داخل أجهزة القضاء والشرطة والجيش.
كما جاء في صفحة “ترك برس”، نشرت شخصيات مقربة من حركة فتح الله غولن تغريدات استبقت محاولة الانقلاب، فسّرها نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي بأنها تفترض حدوث انقلاب.
وقال الأكاديمي التابع لحركة غولن إمرة أوسلو، الذي يعيش في الولايات المتحدة واسمه مدرج على قائمة الإرهاب التابعة لحركة غولن، في تغريدة له: “هؤلاء الذين يريدون دفع ثمن تذكرتي، رجاء اشتروها بين 22 يوليو و12 أغسطس.. تعرفون بريدي الإلكتروني..”. وفي هذه الأثناء، نشر شخص آخر من حركة غولن اسمه طونجاي أوبتشين في تغريدة في 14 يوليو الجاري قبل محاولة الانقلاب: “سوف يدخلون عليهم في أسرّة بيوتهم، ويعلقون مشانقهم في الفجر”. وصرح رئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم بأن الانقلاب هو تحرك للكيان الموازي التابع لحركة فتح الله غولن بداخل الجيش، وذلك في مؤتمر صحفي مع رئيس هيئة الأركان ووزير الداخلية ووزير الدفاع.
الصحف البريطانية:
لم تظهر الصحف البريطانية في تغطيتها للمحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا حرصاً على النظام الديمقراطي هناك، بل ركزت على إبراز ما تعتقد أنه هيأ الظروف لقيامها وبرر لها.وأبقت العديد من الصحف البريطانية على عناوينها التي تفيد باستمرار الاشتباكات وإطلاق النار حتى بعد أن تأكد استتباب الأمر للرئيس أردوغان.
بل إن صحيفة الاندبندنت نشرت أقاويل من يشجعون نظريات المؤامرة بأن محاولة الانقلاب العسكري في تركيا هي مزيفة قصداً أي أنها من صنع أردوغان للتخاص من معارضيه، بعد أن تردد أن أردوغان وصفها بأنها “هبة من الله“. وأنه قد تم عزل أكثر من ألفين من القضاة. وقارن بعض مستخدمي وسائل الإعلام الاجتماعية محاولة الانقلاب بحريق الرايخستاغ – عام 1933م إثر الاعتداء على مبنى البرلمان الألماني والذي استخدمه هتلر كذريعة لتعطيل الحريات المدنية والأمر بالاعتقالات الجماعية للمعارضين له.
وقالت التايمز: إنه لا أحد كان يتخيل حدوث هذه المحاولة الانقلابية بعد سلسلة المحاكمات لكبار ضباط الجيش التركي عام 2007م، حيث بدا أن الجيش قد تم “تطهيره“.وأضافت أن هذه المحاولة ستعمق الانقسام القائم في تركيا بين المحافظين بقيادة أردوغان المستعدين للدفاع عنه ولو بالقوة والعلمانيين القلقين من تزايد التوجهات “الاستبدادية والإسلامية” لأردوغان، على تعبير الصحيفة.
ونشرت الغارديان تحليلاً بعنوان: “أردوغان تسبب في إثارة التوترات في تركيا” تحدث طويلاً عما أسماه خلفية الانقلاب التي أجملها في انتشار الهجمات الإرهابية بالبلاد و”الآراء التسلطية للرئيس الإسلامي“.وقالت: إن هذه المحاولة أعادت تركيا لأزمنة الاضطراب التي أصبحت شيئاً من الماضي، وكانت أمراً عادياً في الستينيات والسبعينيات، وعكست عدم الارتياح المتزايد من الشعب تجاه “رئيس غير محبوب” تسببت خطاباته في انقسام البلاد وأثارت التوترات الإثنية والطائفية.وكتبت أيضاً أن المراقبين للأوضاع في تركيا ظلوا يحذرون من أن القضية الكردية ربما تستثير رداً من الجيش مثل المطالبة بتكثيف الهجمات على الأكراد، لكن قليلين كانوا يتوقعون حدوث محاولة انقلابية، مضيفة أنها مقلقة على وجه الخصوص لأردوغان نظراً لأن جميع الانقلابات السابقة حدثت عندما كانت الحكومات تبدو غير مستقرة.
وكتبت الديلي تلغراف: الجيش التركي يرى نفسه حامياً للدستور العلماني، لتقول :إن أردوغان يمثل تهديداً لهذا الدستور، وإن جنرالات تركيا ظلوا طوال الـ14 عاماً المنصرمة من قيادة أردوغان للبلاد في مواجهة معه.وأضافت أن أردوغان بتهميشه لضباط الجيش وسعيه لاحتكار السلطة لنفسه تسبب في إرباك توازن القوى الدقيق في قلب الدولة التركية.
وكان عنوان الديلي ميل: “الأتراك لم يستسلموا وردوا الاعتداء، مشاهد مذهلة لمواطنين شجعان ضد الانقلاب العسكري الفاشل، يسحبون الجنود المرتعدين من دباباتهم ويضربونهم في الشوارع – وسط مخاوف من انتفاضة جديدة”.
الحمد لله قد فشل هذا الانقلاب، ولكن ليس هذا هو نهاية الأمر، فتركيا المستقلة الحرة المسلمة، ستظل مستهدفة.. فهي رمز الخلافة، ورئة الأمة، وأمل المستقبل! حفظها الله.