حبلوش: الأمة كلها بمؤسساتها ما لم تنهض بحق الإسلام عليها فكلها آثمة إثماً مركباً
كريمة: لا توجد في المؤسسات الدينية ولا الدعوية في العالم الإسلامي أجهزة لمعالجات الإلحاد
عبدالستار: تورط المؤسسة الدينية في بعض السقطات المخزية كان من أسباب لجوء الشباب إلى الإلحاد
عدلان: الخطاب الإسلامي على وجه العموم في هذه المرحلة لا يعبر عن الإسلام تعبيراً حقيقياً
عبدالقوي: دور المؤسسة الدينية أن توازن بين القهر والاستبداد الذي يعيشه الشباب واستيعابه والحفاظ عليه
«علاقة غريبة تلك التي تجمع بين الإلحاد والمؤسسات الدينية في عالمنا العربي والإسلامي، فبدلاً من أن تكون تلك المؤسسات إحدى الوسائل التي يلجأ إليها المجتمع للتعامل مع تلك الظاهرة، إذا بها تصبح وقوداً لتلك الظاهرة وإحدى وسائل تغذيته».. هكذا يرى مراقبون، في حين يرى آخرون أن الصراعات السياسية التي تدخل فيها تلك المؤسسات كطرف ضد طرف آخر هي من تحرك مثل هذه «الادعاءات»، مؤكدين أن المؤسسات الدينية في عالمنا العربي والإسلامي تبذل قصارى جهدها في مواجهة مثل تلك الظاهرة.
وجهتا نظر – إذن – تحكمان طبيعة التعاطي مع تلك الأزمة، وبينهما تقف الحقائق شاهدة على أن مؤسساتنا الدينية فقدت كثيراً من بريقها في أعين الشباب، بل وكثيراً من الثقة فيها وما ينتج عنها.
وهنا يمكننا الحديث عن مجموعة من الأسئلة التي تكشف حقيقة هذا الموقف؛ ومنها: إلى أي مدى يتسق خطاب تلك المؤسسات مع روح العصر التي يؤمن بها الشباب إيماناً يقينياً؟ وماذا عن الفتاوى على وجه التحديد؟ وإلى أي مدى يمكن اعتبارها أحد الأدلة على كون هذه المؤسسات أحد مغذيات الإلحاد؟ وماذا عن جهود تلك المؤسسات في مواجهة هذه الظاهرة؟ ثم ماذا عن المحسوبين على تلك المؤسسات وخطابهم؟
في تعليقه، أكد د. يحيى إسماعيل حبلوش، أمين عام جبهة علماء الأزهر سابقاً، أن الأصل في أمتنا أنه لا توجد فيها مؤسسات دينية وغير دينية، لأن دساتيرنا كدول عربية وإسلامية تنص في أول ديباجتها أن دين الدولة هو الإسلام، ولو صدقت النيات وصحت العزائم لكان في هذا النص كفاية لأن تكون المؤسسات كلها معبرة أو ملتزمة بضوابط الإسلام.
وبالتالي؛ أكد حبلوش رفضه توصيف بعض المؤسسات بالدينية؛ لأن ذلك – برأيه – لا يكون إلا في النصرانية أو اليهودية، ويعني أيضاً أننا نقر بأن لله عز وجل نصيباً في وزارة واحدة أو دار للإفتاء، أما بقية مؤسسات الدولة فهي لا علاقة لها بالشرع.
ولذا يرى أستاذ الحديث بجامعة الأزهر أن خطاب تلك المؤسسات مع ظاهرة كالإلحاد في وجود هذه القسمة الجائرة خطاب غير مؤثر، ويلفت إلى أن الرموز المحسوبة بشكل أو بآخر على تلك المؤسسات قد سقطت من عين الله رب العالمين على حد تعبيره.
ويدلل حبلوش قائلاً: ألم يسقط من يقول عن القُبلة الأولى في غير زواج أنها حلال؟ ألم يسقط من يقول عن الراقصة إنها شهيدة إذا ماتت في عملها؟ ألم يسقط من مازال يبحث عن الشاذ من الآراء الفقهية، ثم تحدثني بعد ذلك عن شباب ملحد وتعتقد بأن لدينا مؤسسات تنتج خطاباً يواجه هذا الإلحاد؟!
ويتابع: الأمة كلها بمؤسساتها ما لم تنهض بحق الإسلام عليها فكلها آثمة إثماً مركباً؛ لأنها تخدع نفسها وتخدع الأنظمة العالمية بالنص على أن دينها الرسمي هو الإسلام، ثم تترك أمثال هذه الخطابات المنفرة.
ليست وحدها
من جانبه أكد د. أحمد كريمة، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، أن جريمة الإلحاد قديمة قدم الزمان، مستشهداً بقوله تعالى: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) (الجاثية: 24)، لافتاً إلى أن الإمام أبا حامد الغزالي في إصداراته العلمية قرر صراحة أن جريمة الإلحاد يتحملها أشياخ جهلة بغَّضوا الحق سبحانه وتعالى إلى الخلق.
وأوضح كريمة أنه بتنزيل ذلك على الواقع المعيش، فإن أحداثاً وتصرفات من بعض المنسوبين إلى الدعوة وأكثرهم ليسوا أهل اختصاص يقدمون صورة مغلوطة عن الدين الذي هو من الله تعالى للعالمين، يربط الإنسان بالمبادئ والنصوص والقواعد الشرعية، بغض النظر عن الأشخاص مهما كانوا، وبهذا يتميز الإسلام عن غيره.
وهنا بحسب أستاذ الفقه المقارن يأتي الخلل، لأن هؤلاء الأشخاص بشر فيهم إيجابيات وسلبيات، لكن الناشئة على وجه الخصوص يريدون القدوة الطيبة في السلوكيات فلا يجدون، سوى قداسة موهومة تتناقض أفعالها مع أقوالها، بالإضافة إلى سوء فهم الدين وسوء عرضه، فقد تركنا وأهملنا الجواهر النفيسة وبددنا الجهود في الخلافات الفرعية، فالناشئة يريدون من يأخذ بأيديهم إلى الإيمان الصافي بالله تعالى.
واستدرك أستاذ الفقه المقارن قائلاً: لا توجد في المؤسسات الدينية ولا الدعوية في العالم الإسلامي أجهزة لمعالجات الإلحاد، وللأسف هناك مؤسسات تابعة للمجتمع الأهلي والمدني تملك خبرات وبرامج ولكنها تفتقر للتمويل اللازم لمواجهة مثل تلك الظواهر.
ويختم قائلاً: وهنا لا بد من ذكر الإعلام الذي يسهم إلى حد كبير في انتشار ظاهرة الإلحاد، بطرق كثيرة، فلا يوجد برنامج واحد تخصصي للتصدي للظاهرة، بل كلها برامج للثرثرة ومواعظ للترغيب والترهيب، لا تعتمد على منهج علمي.
معالجة فاشلة
من جانبه، يرى د. جمال عبدالستار، وكيل أول وزارة الأوقاف المصرية الأسبق، أن الإلحاد اقترب أن يكون ظاهرة، لكنه بالمعايير العلمية المنهجية ليس ظاهرة كاملة، مؤكداً أن هناك وسائل كثيرة لتضخيم أثر الإلحاد ومعالمه، لكنه في النهاية وفي كل أحواله ينبغي الوقوف عنده ودق ناقوس الخطر من أجله.
ويتابع أستاذ الدعوة بجامعة الأزهر أن معالجات المؤسسات الدينية لهذه الظاهرة معالجة فاشلة من جوانب كثيرة، فمن حيث الوسيلة المستخدمة في نقاش هؤلاء أو الكتب أو المناظرات أو غيرها حيث يتم كل ذلك بخلفية غير صحيحة.
ويستشهد عبدالستار قائلاً: فترى مثلاً استدلالاتهم وكأنها استدلالات لمجتمع من المؤمنين، في حين أنهم يناقشون أصلاً أناساً قد تخطوا مرحلة الكفر بالقرآن وبالسُّنة إلى إنكار وجود الله من الأساس، ولا يستخدمون وسائل الإقناع الفكري والعقلي التي استخدمها القرآن نفسه في خطاب هؤلاء المنكرين لوجوده سبحانه وتعالى.
ويؤكد عبدالستار أن أحد أهم أسباب فشل تلك المؤسسات هو عدم وجود كوادر مدربة ومؤهلة لممارسة مثل هذا الحجاج العقلي، بحيث لا تجد بداخلها من اطلع على شبه هؤلاء الملحدين ودرسها من زواياها المختلفة عقلياً واجتماعياً وسياسياً ثم تعامل معها في سياقها واستطاع صياغة تفنيد قادر على الإقناع بالحجج العقلية بعيداً عن الاستشهادات القرآنية والنبوية.
وتحدث عبدالستار عما أسماه “الكارثة الأكبر” قائلاً: إنها تتمثل في أن المؤسسات الدينية وكذلك بعض الرموز هم من أسباب هذه الظاهرة؛ حيث وثقت بهم الجماهير عامة والشباب على وجه الخصوص، لكنهم سقطوا في مواقف جعلتهم يتناقضون مع كل القيم التي كانوا ينادون بها والمفاهيم التي كانوا يدعون إليها؛ وبالتالي تولد لدى كثير من الشباب مشاعر السخط على الدين الذي يدعو إليه هؤلاء.
واختتم عبدالستار قائلاً: من هنا أستطيع القول وبكل وضوح: إن تقصير المؤسسة الدينية وتورطها هي ورموزها في بعض المشاهد في سقطات مريعة ومخزية كان من أبرز أسباب لجوء الشباب إلى الإلحاد؛ لأنهم يبحثون عن مسلك آخر يُحدث لهم قناعة وثقة بعد أن اهتزت الثقة التي أولوها تلك المؤسسات وهؤلاء الرموز فضاعت تلك الثقة في وقت الأزمات حينما رأوا القول عكس الفعل بطريقة مريعة.
خطاب «فتنة»
أما د. عطية عدلان، أستاذ أصول الفقه، فيرى أن المؤسسات الدينية المعاصرة سواء التابعة للدولة كالأزهر ودار الإفتاء والأوقاف، أو غير الرسمية كالجماعات الإسلامية بمؤسساتها وأحزابها كلها أسهمت بشكل أو آخر في تفشي ظاهرة الإلحاد.
ويتابع: الخطاب الإسلامي على وجه العموم في هذه المرحلة لا يعبر عن الإسلام تعبيراً حقيقياً، ولا يحل مشكلات البشرية، ولا يتوافق مع الفطرة الإنسانية بصورة كاملة، ولا يحقق مصلحة الدعوة الإسلامية على سبيل الحقيقة؛ ففيه كثير من تغيير الحقائق وتبديلها عن طريق تحميل النصوص ما لا تحتمل، الخطاب فيه مبالغات في جزئيات وإهمال لكليات.
ويرى عدلان أن هذا الارتباك في الأداء مع سوء الخطاب يعتبر في حد ذاته فتنة، أو هو على وجهين من وجوه ثلاثة في تفسير قول الله تعالى: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا) (الممتحنة: 5)؛ أي لا تجعلنا بأفعالنا وأقوالنا قدوة سيئة للناس ولا نمثل دينك تمثيلاً صحيحاً فيكون هذا صاداً للناس عن اتباع الحق، وعلى الوجه الآخر يعني أي ربنا لا تمكن منا أعداءك فيقولون: لو كانوا على الحق لمكنوا فيفتنهم ذلك عن دينك.
وأكد عدلان أنه وبلا شك، فإن المؤسسات الدينية على اختلاف توجهاتها كانت سبباً كبيراً جداً في تفشي تلك الظاهرة، وبدلاً من أن تكون أحد عوامل الثبات في وجهها كانت – للأسف – أحد روافد تهيئة الشباب لقبول فكرة الإلحاد.
وعن محاولات تلك المؤسسات وغيرها مواجهة ظاهرة الإلحاد قال عدلان: للأسف كلها محاولات فردية، بمعنى أنها إما مبادرات لأفراد، أو مؤسسات صغيرة، كمواقع يقيمها بعض الأفراد تدعو للإسلام وتواجه الإلحاد، وللأسف نفتقد لمواجهة قائمة على عمل مؤسسي ليس في مواجهة الإلحاد فقط، وإنما في البحث عن جذوره وأسبابه من ظلم واستبداد وعدم تمكين للشباب.
الدور العكسي
ويرى الشيخ سلامة عبدالقوي، المتحدث الرسمي الأسبق باسم وزارة الأوقاف المصرية، أن دور الملحدين ومؤسساتهم ينشط من خلال منصات التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت في البيئة الخصبة، وهي البيئة التي يكون فيها استبداد وقهر وعدم ممارسة حقيقية وتمكين للشباب.
ويتابع: من هنا يكون دور المؤسسات الدينية التي من المفترض أن تقوم لإحداث توازن بين حالة القهر والاستبداد الذي يعيشه الشباب وبين استيعابه بشكل مباشر والحفاظ على هذه الثروة البشرية من عوامل التآكل العقدي والأخلاقي.
ويرى عبدالقوي أن المؤسسات الدينية في عالمنا العربي على وجه التحديد صارت بعيدة كل البعد عن ممارسة هذا الدور الاستيعابي بكل تفاصيله وتفريعاته، لأنها أصبحت مشغولة بشكل واضح بمساندة الأنظمة والسير في ركابها، فإذا كان النظام يعطي مساحة للمنحرفين فكرياً وعقائدياً وأخلاقياً؛ فسنجد المؤسسات الدينية تغض الطرف عن الحديث عن هذه الانحرافات خوفاً منها أن تكون في خصومة مع هؤلاء لأنهم “مسنودون” من النظام.
ومتأسفاً قال عبدالقوي: وهذا خطأ شنيع، فدور عالم الدين ينبغي أن يكون بخلاف ذلك، حيث من القواعد المقررة أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن دعت الحاجة إلى الحديث عن الانحرافات الأخلاقية كان أول المتحدثين ويحذر الناس منها، حتى وإن كان ذلك فيه مخالفة للنظام أو حتى لرأس النظام في ذلك البلد.
وقال عبدالقوي: ينبغي أن نعترف أن الشباب يتمتع بذكاء اجتماعي عالٍ جداً، وبالتالي فعندما يبتعد عالم الدين أو المؤسسات الدينية عن الصواب فإنه يفقد الثقة فيهم بالكلية، ويحاول البحث عن ضالته ومدينته الفاضلة في مكان آخر، بالتالي يقع فريسة سهلة في يد المواقع الإلحادية التي تقابله بكم من الشبهات هو غير مدرب على مواجهتها وتلمس عنده قناعات معينة تولدت جراء مواقف مؤسساته الدينية ورموزه المتخاذلة؛ وبالتالي يجد نفسه قد تحول من حيث لا يدري ويتحدث بلسانهم ويصير داعياً لهذا المنهج فيما بعد.
أيضاً تحدث عبدالقوي عما أسماه الدور العكسي للمؤسسات والرموز الدينية، حيث يرى أن بعضها يخرج على الشباب في برامجه ليتحدث بطريقة تناقض الدين وتناقض العلم؛ وبالتالي وكأنه يدفع الشباب دفعاً إلى ترك هذا الدين الذي لا علاقة له بالعلم أو بالفطرة.
وعن العلاج الصحيح، قال سلامة: الإلحاد سببه الأساس عدم تمكين الشباب في بيئات القهر والاستبداد، وما المؤسسات الدينية إلا وسيلة من وسائل المستبد لترسيخ ملكه وقهر الشعوب في يد هذا المستبد، ولذا يجب علاج تلك الظاهرة من أساسها وهي القهر والاستبداد.