لم تعد أي من نظريات العلاقات الدولية تُسلم بالدولة القومية (دولة ويستفاليا) كوحدة وحيدة لفهم تفاعلات الحياة الدولية، فقد زاحمت كيانات ”ما فوق الدولة“ (من منظمات دولية أو إقليمية حكومية أو غير حكومية) وكيانات ”ما دون الدولة“ (من أقليات دينية أو قومية أو مذهبية) دور الدولة التقليدية في تشكيل اتجاهات المجتمع الدولي، وأصبحت مقاييس العولمة (مقياس Kearney وKOF وغيرها) تتتبعُ درجة انخراط الدولة في نشاطات الكيانات من ”ما دونها وما فوقها“ في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأضحى التعرف على اتجاهات الرأي العام العالمي مؤشراً على طبيعة هذه التفاعلات ودلالاتها.
ذلك يعني أن قراءة مستقبل الموضوع الفلسطيني في ظلّ هذه التحولات يستوجب تحديد الاتجاهات الكبرى في العلاقات الدولية، وتحديد دور القوى المركزية في توظيف هذه الاتجاهات في سياساتها التي تنعكس بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على الموضوع الفلسطيني.
الاتجاهات الكبرى في العلاقات الدولية:
طبقا لأغلب الدراسات تتمثل هذه الاتجاهات في الآتي:
1- التوجه نحو نظام دولي متعدد الأقطاب وهو ما يتيح للقوى الوسطى والصغرى مساحة أكبر للمناورة.
2- تنامي النزعة البراجماتية في السياسات الدولية على حساب النزعة الأيديولوجية أو العقائدية.
3- تنامي التكتلات الاقتصادية الإقليمية والدولية على حساب التكتلات الأمنية والعسكرية.
4- تزايد ”نسبي“ في دور المنظمات غير الحكومية في تكييف سياسات الدول.
5- الانحسار التدريجي غير الخطي nonlinear لدور القوى الدينية في العالم.
6- الاهتمام المتزايد بتوجهات الرأي العام الدولي تجاه القضايا الدولية المختلفة.
7- استمرار نزعة التفتت الاجتماعي والسياسي في مواجهة نزعة الترابط الاقتصادي والمالي والتقني في العالم.
وتنعكس هذه التوجهات على الموضوع الفلسطيني بكيفية متناقضة، مما يجعل الرصد يميل لتحديد أوزان هذه التحولات أو الملامح الدولية في مدى تأثيرها على الموضوع الفلسطيني على النحو التالي:
1- التعدد القطبي: لما كانت الدول العربية والتنظيمات الفلسطينية تتبنى سياسات متناقضة ومتضادة لبعضها بعضاً، فإن حدود الاستفادة من التعدد القطبي تصبح محدودة، بينما الطرف الصهيوني وبسبب وحدة القرار، يمكنه من توظيف هذه المسألة لصالحة بطريقة أفضل، ويكفي تتبع تطور العلاقات “الإسرائيلية” مع الصين والهند بل وتوظيف الوجود الروسي في المنطقة العربية لصالحها في ”بعض الجوانب“.
2- تنامي النزعة البراجماتية في السياسات الدولية، ولعل أيّ مقارنة بين مواقف صين ”ماوتسي تونغ“ وصين التحديثات الأربعة، أو مواقف حزب المؤتمر الهندي ومواقف حزب جاناتا الهندوسي، أو مواقف ماكرون قياساً لمواقف ”الاشتراكيين أو الديغوليين“، أو حتى مواقف ترمب قياساً لمواقف المحافظين الجدد أو أوباما.. كلها تكشف عن تنامي النزعة البراجماتية على حساب الأيديولوجية في النظر لموضوعات العلاقات الدولية، وهذا لا يعني أن البراجماتية كانت غائبة سابقاً أو أن الأيديولوجية غائبة حالياً، لكن المقصود هو مساحة كل منهما في توجيه السلوك الدولي سابقاً وحالياً.
ومن الواضح أن الأطراف العربية لا توظف البعد البراجماتي في إدارتها الدولية للموضوع الفلسطيني، فلا تربط المصالح الاقتصادية، أو الإستراتيجية، أو المالية، أو العسكرية بالموضوع الفلسطيني، قدر ارتباطه بالمنافسات الإقليمية العربية (مثل التنافس مع إيران، أو بين دول الخليج، أو بين دول المغرب العربي.. إلخ)، بينما الطرف “الإسرائيلي” أكثر توظيفاً لهذا الموضوع، وهو ما يتضح في الاتفاق “الإسرائيلي” الصيني للتعاون التكنولوجي في جوانب مختلفة وخصوصاً العسكري منها، على الرغم من أن هناك بعض التوجسات لدى بعض المفكرين “الإسرائيليين” من أن تراجع دور الأيديولوجيا قد يمتد إلى دور الصهيونية، والتي تشكل القاعدة الفكرية للمجتمع “الإسرائيلي”، وهو الأمر الذي تؤكده أغلب استطلاعات الرأي العام “الإسرائيلي” من ناحية، ودراسات أكاديمية “إسرائيلية” من ناحية أخرى[1].
3- تزايد التكتلات الإقليمية الاقتصادية على حساب التكتلات الأمنية، فقد بلغ عدد الاتفاقيات في مجال التكامل الإقليمي منذ التسعينيات من القرن الماضي نحو 194 اتفاقية، وعند تصنيف مستويات الاندماج الإقليمي إلى 3 مستويات (قوي – متوسط – ضعيف)، تقع التكتلات الإقليمية العربية (مجلس التعاون الخليجي، أو اتحاد المغرب العربي، أو الجامعة العربية.. إلخ) ضمن التصنيف الضعيف، وهو ما يعني أن القدرة العربية على توظيف التكامل الإقليمي لتحقيق قدرة استقلالية أكبر في القرار السياسي والاقتصادي ما زال دون المستوى. ويبدو أن المشروع الإسرائيلي المستقبلي هو محاولة إيجاد نوع من التكتل الإقليمي الذي تكون ”إسرائيل“ طرفاً فيه على غرار مشروع الشرق الأوسط الجديد (مشروع بيريز)، أو الكبير (مشروع المحافظين الجدد)، أو مشروع طريق واحد – حزام واحد الصيني الذي يسعى لربط آسيا بأوروبا عبر طريقين بري وبحري يمران من المنطقة العربية بما فيها فلسطين المحتلة، إلى جانب مشروع ممر السلام الياباني في غور الأردن.. إلخ.
4.- تزايد ”نسبي“ في دور المنظمات الدولية خصوصاً غير الحكومية التي بلغ عددها قرابة 40 ألف منظمة، وتشير إحصاءات منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) إلى أن هناك 67 قطاعاً تعمل في نطاقها المنظمات الدولية غير الحكومية، وتغطي هذه القطاعات ميادين بيئية، وقانونية، واقتصادية، وعسكرية، وطبية، وتعليمية، وتقنية، وسياحية، ولغوية، واجتماعية، ورياضية.. إلخ، ومن بين هذه المنظمات هناك 827 منظمة تعنى بموضوعات العلاقات الدولية[2].
وتبدي ”إسرائيل“ قدراً كبيراً من ”عدم الرضا“ على أغلب قرارات ونشاطات أغلب هذه المنظمات لا سيّما ذات العلاقة بحقوق الإنسان أو ذات الطابع القانوني[3] ، وهو أمر يعزز الموقف الفلسطيني.
5- الانحسار غير الخطي لدور القوى الدينية: على الرغم من تنامي دور الأديان سياسياً خلال العقود الثلاثة الماضية (تنامي الأحزاب الإسلامية، تنامي الأحزاب اليهودية الدينية في ”إسرائيل“، لاهوت التحرر في أمريكا اللاتينية، المحافظون الجدد في الولايات المتحدة، وصول حزب جاناتا الهندوسي للسلطة في الهند…إلخ)، إلا أن الموقف الدولي ضدّ هذا التنامي يتزايد. ونظراً لتعقيدات الموضوع وضرورة التمييز بين دراسة مستقبل الظواهر التاريخية والظواهر العابرة من حيث الاتجاهات الفرعية sub-trend والاتجاهات الأعظم mega-trend، فإن المقام لا يحتمل الاستفاضة في هذا الموضوع[4]، ذلك يعني أن الحركات الفلسطينية ذات التوجه الديني ستواجه المزيد من الضغوط عليها من ناحيتين:
أ- إجبارها على الانخراط في التسويات السياسية أو إدراجها ضمن قوائم التنظيمات الإرهابية.
ب- إجبارها على إجراء تغييرات جوهرية على خطابها السياسي.
6- تنامي الرأي العام الدولي المناهض لـ”إسرائيل”، وهو ما تشير له أغلب استطلاعات الرأي العالمية[5]، وهو أمر يحسن البيئة الدولية نسبياً لصالح الطرف الفلسطيني لا سيّما من حيث الإقرار القانوني بالحقوق الفلسطينية الواردة في قرارات الأمم المتحدة (أي حول موضوعات إقامة الدولة الفلسطينية ومناهضة الاستيطان).
7- التفتت الاجتماعي والسياسي (ويظهر من استمرار ظهور الدول الجديدة المنبثقة من دول قائمة مثل جنوب السودان)، وهو الأمر الذي يراه منظرو العولمة أنه نتيجة لتماثل المجتمعات (في البنى الإدارية، والتقنية، والأزياء، والفنون، والرياضة، ومناهج التعليم.. إلخ)، مما يدفع الثقافات الفرعية للدفاع عن نفسها في مواجهة هذا التماثل والرغبة في عدم التماهي معه، وهو ما جعل بعض المفكرين الإسرائيليين يبدون قدراً من القلق حول احتمال بروز هذه النزعة في ”إسرائيل“ في حالة تراخي الخطر الخارجي عليها، فتظهر التشققات في المجتمع الإسرائيلي استناداً للّون والأصول العرقية والعلمانية والدينية.. إلخ[6] .
توافقات المجتمع الدولي في الموضوع الفلسطيني:
يمكن رصد الظواهر التالية التي تمثل نقاط توافق ”نظرية“ مع أغلب اتجاهات المجتمع الدولي الرسمي والشعبي، سواء في الدول الكبرى أم المتوسطة أم الصغرى، وسواء في المنظمات الدولية الحكومية أم غير الحكومية:
1- إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 بما فيها القدس.
2- رفض المستعمرات “الإسرائيلية” في المناطق المحتلة سنة 1967.
3- حقّ ”إسرائيل“ في الوجود الآمن ضمن حدود معترف بها.
4- تطبيع العلاقات العربية “الإسرائيلية” شرط ضروري لـ”السلام”.
ذلك يعني من الناحية النظرية أن العالم بقواه الرئيسة:
1- يرفض مطالب الحركات الفلسطينية الداعية لتحرير فلسطين.
2- يرفض استخدام القوة المسلحة بدلاً من التفاوض بين الطرفين.
ولعل هذا التصور يعوزه نقطة أساسية هي أن الطرف “الإسرائيلي” يتوسع من الناحية الفعلية في سيطرته على الأراضي الفلسطينية وتهويد القدس، مما جعل النظرة الدولية ترى أن للفلسطينيين حقّ إقامة الدولة لكن الواقع الميداني يجعل من إقامتها أمراً مستحيلاً، وهو ما أكدته دراسات الاتحاد الأوروبي[7]، وما قاله بشكل واضح وزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري في آخر محاضرة له في سنة 2016[8].
يترتب على ما سبق أن الحل النهائي سيكون مواجهة بين موقف دولي ينادي بإقامة دولة فلسطينية من ناحية، وواقع ميداني يجعل تنفيذ ذلك مستحيلاً، مما يعني العودة للمواجهة من جديد بكل الأشكال التي عهدها الصراع منذ بدايته.
وعلى هذا الأساس، فإن فنّ توظيف متغيرات القوة (المادية والمعنوية وإدارتهما) هو الذي سيحسم الموقف، لكن المؤشرات في الفترة القادمة (الخمس سنوات) تشير إلى أن الطرف العربي والفلسطيني غير مؤهلين لذلك، وهو ما سيجعل الطرف “الإسرائيلي” يضغط بشكل تدريجي باتجاه جعل حلّ الموضوع الفلسطيني على حساب ”دول الجوار أولاً“ كأحد جوانب التفاوض، ثم يبدأ بتحييد بقية الاقتراحات لصالح هذا الاقتراح، مستفيداً من ”خوار عربي“ بعد فترة من الاضطرابات السياسية المنهكة، ومن مساندة ودعم من المجتمع الدولي ثانياً، وسيعمل المجتمع الدولي خلال هذه الفترة القادمة على:
1- الضغط على قوى المقاومة المسلحة باتجاه ”وقف العمليات أو التحريض عليها“.
2- الربط بين المساعدات الدولية وبين التزام التنظيمات الفلسطينية بكل الاتفاقيات الدولية التي أبرمتها منظمة التحرير مع ”إسرائيل“ (ومن ضمنها الاعتراف بـ”إسرائيل”).
3- استثمار التباينات العربية لتوسيع قاعدة الاعتراف بـ”إسرائيل” اعترافاً قانونياً أو واقعياً.
هذا السيناريو هو الأكثر احتمالاً في المدى القصير، وهو مرهون في نجاحه أو فشله في كيفية إدارة قوى المقاومة والتحرير لمشروعها من خلال وعيها بملامح الواقع الدولي التي أشرنا لها في بداية هذه المداخلة من ناحية، ومن خلال الوعي بكيفية بناء تحالفات دولية وإقليمية على أسس إستراتيجية تسهم في مواجهة السيناريو المشار له أعلاه، ولعل إستراتيجية توزيع الأدوار بين التنظيمات الفلسطينية هي الإستراتيجية الأنسب للمرحلة القادمة.
(*) أستاذ بقسم العلوم السياسية بجامعة اليرموك – الأردن.
مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.