أسس العلامة عبد الحميد بن باديس أفكاره الإصلاحية والاجتماعية على تربية الجيل وإعداده. وقد كانت تلك الرؤية أساسًا راسخًا في نهضة الجزائر الحديثة، فهو أدرك منذ البداية أنه ما من أمة يمكن أن تنهض نهوضًا حقيقيًا إلا عن طريق التربية والمعارف، وأن هذه التربية لا تكون مُجدية إلا على أساس من العقائد وتقويم الأخلاق، لأن الأخلاق تنبع من أعماق الضمير الواعي لا من قهر المجتمع، فصوت الضمير أقوى من مئات القوانين والأحكام.
وبناء على تلك الرؤية، أدرك ابن باديس أن القرآن الكريم هو مصدر الخلق العظيم، فسعى إلى تعليم القرآن وتفسيره لتحصين المجتمع الجزائري وإعداده بتربية إسلامية شاملة أساسها القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولتتحصَّن هذه الأمة وتتمسَّك بأخلاقها وقيمها، فلا سبيل إلا بالتعليم والتوعية وبث روح القرآن وأخلاقه في نفوس المتعلِّمين.
خاطب ابن باديس الشعب الجزائري مبينًا مكانة التعليم في المحافظة على الإسلام، وكان يخاطب الجزائريين بقوله: “أيها الشعب الجزائري المسلم الكريم، تالله لن تكون مسلمًا إلا إذا فقهته، ولن تفقهه إلا إذا كان فيك من يفقِّهك فيه، فلهذا فرض الله على كل شعب إسلامي أن تنفر منه طائفة لتتفقه في الدين وترجع إلى قومها بالإنذار”.
وإذا كان الفرد المسلم هو محور العلمية التربوية والقيمية التي تعتمد في أساسها على التثقيف وتعليم الإسلاميين لمحاربة التغريب والتقليد، فإن إصلاح المجتمع في رأي ابن باديس لا يكون إلا بصلاح الفرد، وإصلاح الفرد لا يكون إلا بتطهير نفسه وعقله من البدع والخرافات، وذلك بتعليم الإنسان المسلم علوم القرآن والسنة والعلوم الصحيحة، وبتهذيب الأخلاق والقيم الإسلامية. وقامت الرؤية الباديسية في بناء الفرد والمجتمع على مجموعة أسس وهي:
1- الرؤية التربوية:
التعليم والتربية هما هدف وغاية في تكوين الشخصية عقليًا ونفسيًا وسلوكيًا، وهما وسيلة وأداة لتحقيق تلك الغاية، وهما نهج وسبيل لا يمكن تجاوزهما لأولئك الذين يريدون بناء الأمم والحضارات أو تجديدها إذا أصابها التقدم والبلى، والتربية والتعليم هما صنوا العلم والعمل، فلا فائدة من العلم دون العمل، كما لا فائدة من التعليم من دون التربية، فمنذ الأزل، التربية والتعليم متلازمان جنباً إلى جنب لتحقيق غاية الحق من الخلق.
والمقصود بالتربية هي جملة المبادئ والقيم التي تنتمي إلى ثقافة أو حضارة ما، والتربية غير التعليم، ذلك لأنَّ التربية تعني عملية البناء العقلي والقلبي والسلوكي للإنسان، أي هي عبارة عن تنمية الشخصية لدى الإنسان المتعلم.
وقد كانت مهمَّة الأنبياء بالدرجة الأولى هي مهمَّة تربوية، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان المربي الأوَّل في الإسلام، فقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن مهمَّة الأنبياء في الأرض حيث قال: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ *} [البقرة: 151].
2- الإعداد الروحي:
اهتم ابن باديس بالجانب الروحي وحرص على غرس معاني الإيمان في نفوس من يحضر له في دروسه، فكان يربي الناس على الأذكار وتلاوة القرآن والصيام والصلاة والزكاة، واهتم بالأمور التي تغذي الإيمان وتهذيب السلوك المستمدة من الكتاب والسنة، وكان يستخرج الفوائد التربوية من الآيات القرآنية، فمثلاً عندما فسَّر قول الله تعالى: َ {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِي لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ*} [النمل: 20]. وكان يدعو للتسامح والمودة بين أبناء المجتمع والتحلي بأخلاق النبي وقراءة سيرته ومناقبه، وقراءة الأذكار اليومية، والاهتمام بالصلوات في أوقاتها، وكان يشرح آيات الذكر الحكيم ويفسرها ليعلم الجيل قيمة هذا الإرث المعرفي وأثره، والاهتمام بعلوم القرآن وبأنه جاء رحمة وشفاء للعالمين، وأنه هو مصدر الحق وحجة ناصره، ومحصل الخير لأتباعه.
3- التربية الأخلاقية:
أحيا ابن باديس الشباب الجزائري بأخلاقه الإسلامية التي استنبطها من القرآن الكريم وأصلح بها نفوسهم. وإذا تتبعنا تفسيره لآيات الأخلاق في القرآن الكريم وجدنا لديه مذهباً متكاملاً لا يعالج فيه الأخلاق من الجانب النظري والفردي فقط، بل يعالج على أساس ديني واجتماعي واقعي، ومنهج ابن باديس في التربية الأخلاقية يعتمد على بساطة الأسلوب دون اللجوء إلى مصطلحات فلسفية معقدة، ويبين بكل وضوح أن الدين والأخلاق يوجبان على الإنسان، أن يهتم بإصلاح نفسه أكثر من اهتمامه بجسمه وأن صلاح الإنسان وفساده إنما يقاسان بصلاح نفسه وفسادها وما فلاحه إلا بزكاتها طبقاً لقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا *وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا*} [الشمس : 9 ـ 10].
لقد أكد ابن باديس على ضرورة التكافؤ بين الجسم والنفس، وهذا ما جاء به الإسلام من ضرورة الجمع بين الدين والدنيا، ثم يربط ابن باديس صلاح الفرد بصلاح المجتمع لتحقيق ما جاء به الإسلام من أن إصلاح النفوس يكون بالتزام شريعة الحق والخير والعدل، والكف عن الظلم والشر والباطل. وخير علاج لإصلاح النفوس هو الرجوع إلى رحمة الله تعالى وإلى القرآن الكريم الذي يؤكد أن الله تواب رحيم لأن الإنسان مفطور على الخطأ، ومن هنا وجبت المداومة على إصلاح النفس، وهنا استطاع ابن باديس أن يظهر الأمل في نفوس الجزائريين لكي يحرروا أنفسهم من الاستبداد بشكله الواسع، سواء كان من رجال التصوف «المنحرف المرتبط بفرنسا»، أو من الاستعمار.
4- ملامح الفكر التربوي الأخلاقي عند ابن باديس:
أ- ضرورة الاهتمام بالإنسان:
كهدف رئيسي عام، علمًا وعملًا وفكرًا وسلوكًا، وهذا الاهتمام يتمثل في ضرورة التعليم المدرسي والتعليم بالقدوة وتنظيم الجماعة وخلق الوعي العام. وفي هذا يقول ابن باديس: العلم قبل العمل، ومن دخل العمل بغير علم لا يأمن على نفسه من الضلال ولا على عبادته من مداخل الفساد والاختلال، وقال أيضاً: إن ما نأخذه من الشريعة المطهرة علماً وعملاً فإننا نأخذه لنبلغ به ما نستطيع من كمال في حياتنا الفردية والاجتماعية، والمثال الكامل على ذلك هو حياة محمد صلى الله عليه وسلم في سيرته الطيبة.
واستخدم ابن باديس الوسائل المتاحة لتحقيق التربية الأخلاقية، كإلقاء الدروس والتفسير والاستفادة من جهود العلماء السابقين وتدريس كتبهم كالقاضي عياض صاحب كتاب الشفاء، والإمام الغزالي صاحب كتاب علوم الدين، وغيرهم، واهتم بالتذكير والدعوة للتفكير.
ب- الشمولية في الإصلاح:
أي أن يكون الإصلاح كلي لا جزئي، ويتناول كل ميادين التوجيه الأخلاقي والثقافي والسياسي للفرد، لأن الانصراف لإصلاح جانب واحد هو الفرد أو المجتمع لا يؤدي إلى إصلاح حقيقي، بل يؤدي إلى التخريب والهدم، ولهذا فإن تحقيق هذه الشمولية يتطلب:
- موقف حاسم من عناصر الهدم الأخلاقي والديني والاجتماعي ورسم الخطوات اللازمة.
- إثبات مدى الارتباط بين الفكر والسلوك، والاعتقاد والعمل، وأكد ذلك بدليل تاريخي على اعتبار أن المنهج الذي نجح به المسلمون الأولون في تغيير العالم إنما هو سلوكهم وتطبيقهم الإسلام على أنفسهم قبل غيرهم في الحياة.
- ضرورة تعاون الإرادة والفكر والعمل، فهذا التعاون سبيل بناء الشخصية الإنسانية المتكاملة ظاهراً وباطناً، يقول ابن باديس: إن الكمال الإنساني متوقف على قوة العلم وقوة الإرادة والفكر والعمل، فهي أسس الخلق الكريم والسلوك الحميد.
- الاعتماد على الحجة والإقناع والمصارحة والدعوة.
- ضرورة النظر في النفس وفهمها وإصلاحها فذلك أمر إلهي ومطلب إنساني، ولذا يعتبر ابن باديس أن العناية الشرعية متوجهة كلها إلى إصلاح النفوس، لأن صلاح الإنسان وفساده إنما يقاسان بصلاح نفسه وفسادها، استشهاداً بقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا *} [الشمس: 9 ـ 10].
جـ- التزكية الأخلاقية:
لقد حرص ابن باديس على صياغة القيم والفضائل الأخلاقية في صورة منهجية وفق قواعد عامة معروفة، ثم في صورة نداءات ووصايا يمكن أن تتحول إلى قالب تعليمي وإرشادي يسهل التعريف به والدعوة إليه، وكان يردد تلك النداءات في محاضراته ومقالاته وتفسيراته وأثناء رحلاته أيضاً، فاستطاع بذلك أن يحول قيم الرحمة والعدل والمساواة والحق والصدق والحب والتسامح وغيرها، إلى برنامج عمل إصلاحي أو نظرية متكاملة في كيفية إصلاح الإنسان وبنائه وتقويمه، وقدمها، كنموذج للأخلاق العملية التي تقوم على أساس ديني واجتماعي.
د- الفضائل الأخلاقية عند ابن باديس:
اهتم ابن باديس في تفسيره لآيات القرآن وأحاديث الرسول عليه السلام ببيان أهم الفضائل الأخلاقية المستمدة من المصادر النقلية، في مقدمتها الرحمة، والعدل والمساواة والأمانة والصدق والإحسان والبر إلى اليتامى والمساكين والبر إلى الوالدين والجهاد في سبيل الله والحب والتسامح والصبر والثبات والإيثار والوفاء بالعهد وغيرها.
مراجع المقال:
1- أندري ديرليك، عبد الحميد بن باديس.
2- عبد الرشيد زروقة، جهاد ابن باديس ضد الاستعمار الفرنسي.
3- عبد العزيز فيلالي وآخرون، البيت الباديسي.
4- عبد العزيز فيلالي، وثائق جديدة عن حياة خفية في حياة ابن باديس الدراسية.
5- علي الصلابي، كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس.
6- عمار الطالبي، ابن باديس حياته وآثاره.