كتاب “دولة الإرهاب: كيف قامت إسرائيل الحديثة على الإرهاب” تأليف “توماس سواريز”[1]، منذ سطوره الأولى يؤكد أن الكثير يصورون الصراع الجاري في فلسطين بأنه صدام معقد بين عدوين تاريخيين، إلا أن الكتاب يسير في طريق آخر، إذ يؤكد أن هذا الصراع، ما هو إلا قصة لحركة سياسية واحدة، هي الحركة الصهيونية، وتصميمها على الاستيلاء على فلسطين، وتوطين اليهود، بعدما نجحت في اختطاف الدين اليهودي، وتأميمه لصالح أفكارها ومشروعها.
يؤكد الكتاب أن إسرائيل في حقيقتها دولة استيطان، بنت مشروعها على إحلال شعب مكان آخر، لذا وجدت تعاطفها ودعمها الأكبر من الولايات المتحدة، التي كانت هي أيضا مشروعا استيطانيا جاء على حساب الشعوب التي كانت مستقرة في الأمريكتين قبل قدوم الرجل الأبيض إليها، لذا يتفهم الأمريكيون الإرهاب الصهيوني في فلسطين، ويتغاضون عن وحشيته، ويرون فيه تكرارا لما جرى مع “الهنود الحمر”، أما البريطانيون فقدموا (خدمة) كبرى للحركة الصهيونية، بعدما رسخوا الاستيطان، وحصلوا له على اعتراف دولي، وقمعوا الثورة الفلسطينية في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي.
والحقيقة أن هناك وثائق يعود تاريخها إلى ما قبل الانتداب البريطاني على فلسطين تثبت أن البريطانيين والأمريكيين كانوا واثقين أن خروج بريطانيا من فلسطين سينتج عنه إنشاء دولة يهودية، ليس وفق معايير التقسيم الدولية، بل وفق مساحة الأراضي التي ستتمكن الميليشيات الصهيونية من السيطرة عليها بالقوة، لذا لم تكن المفاوضات التي جرت منذ صدور وعد بلفور عام 1917 حتى قيام إسرائيل في مايو 1948 إلا تمكينا للمشروع الصهيوني من أن ينشئ دولته، فالقرارات الدولية بتقسيم فلسطين كانت خطوة غير مرغوب فيها للحركة الصهيونية، لكنها ضرورية للحصول على صفة “الدولة” المعترف بها، وهو اعتراف يمكنهم من الاستيلاء على فلسطين بالكامل، أما الفلسطينيون فكانوا على وعي بأن صدور القرار (181) القاضي بتقسيم فلسطين ما هو إلا خدعة لن تقود إلى لمزيد من القتل والطرد والتهجير[2].
يؤكد الكتاب أن اليهود لم يكن لهم أي ثقل سكاني في فلسطين قبل القرن التاسع عشر، حيث ظلت نسبتهم لا تتعدى (1.7%) من سكان فلسطين، وكان الحجاج والمسافرين يشكلون النسبة الأكبر منهم، لكن منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أخذ يتوافد إلى فلسطين يهودا علمانيين من أوروبا يناصرون الحركة الصهيونية ذات التوجه العرقي، ومع حلول القرن العشرين كانت نسبة اليهود قد ارتفعت إلى (6%).
كان دعاة الصهيونية يعترفون أن هدفهم السياسي لا يمكن تحقيقه إلا باستخدام العنف ضد السكان، وكتب “الكشافة الصهيونية” برقية عام (1898م) مفادها أن فلسطين ليست خالية من السكان ولا يمكن تحقيق الهدف الصهيوني إلا بقتل السكان أو تهجيرهم، لذا تأسس العنف الصهيوني في فلسطين على الحيلولة دون تقرير المصير في فلسطين، وفرض حكم الأقلية المستند إلى العرق، ورأت الصهيونية أن الانتخاب على أساس الدم اليهودي وليس المواطنة، مروجين لدعاوى أن حق اليهود في فلسطين لا يخضع للمعايير التي تخضع لها بقية الأمم.
كان الاستيلاء على الأراضي وعلى فرص العمل أحد أدوات الصهيونية في التطهير العرقي ضد الفلسطينيين، لذا عرفت الحركة الصهيونية التمييز في العمل على أساس عرقي منذ العام (1907) حيث طُبقت سياسة “العمالة اليهودية فقط”، وفي العام 1924 لجأ بعض اليهود إلى العمال الفلسطينيين لحلب أبقارهم يوم السبت الذي ينقطع فيه اليهود تماما عن العمل، فأصدر “مناحم أوسشتكين” –مدير الصندوق القومي اليهودي” بيانا جاء فيه أن “التحريم الصهيوني للعمالة غير اليهودية أقدس من يوم السبت”.
الصهيونية وتأميم اليهودية
في يوليو 1938 عقد الرئيس الأمريكي روزفلت اجتماعا مع ممثلي (32) بلدا في فرنسا، بهدف مناقشة توطين اليهود الذين كانوا يتعرضون لمذابح في ألمانيا إبان حكم هتلر، إلا أن المنظمة الصهيونية العالمية رفضت المشاركة في الاجتماع، ورأت أن ذلك المؤتمر لم يقم على أساس إنشاء دولة صهيونية في فلسطين، ورأى الزعيم الصهيوني “بن غوريون” أن إيجاد مواطن آمنة لليهود يضعف المشروع الصهيوني، كما هاجم عمليات الحلفاء أثناء الحرب العالمي الثانية لإنقاذ أطفال اليهود في ألمانيا، وقال:” إن من الأفضل أن يُذبح نصف هؤلاء الأطفال على يد النازيين، من أجل أن يُرسل النصف المتبقي ليكونوا مستوطنين في فلسطين”، بل إن المنظمة الصهيونية شنت عمليات إرهابية ضد ملاجئ الأطفال اليهود في أوروبا.
كان العام 1940 شهد أشد الأعمال الصهيونية فتكا ضد اليهود غير المتوافقين مع أهدافها، عندما فُجرت السفينة “باتريا” التي تحمل الكثير من اليهود الفارين من جحيم الحرب، فقتل منهم أكثر من مائتي شخص، كان التفجير تقف ورائه منظمة “الهاغانا” التابعة للوكالة اليهودية التي كان يرأسها في ذلك الوقت “موشي شاريت” الذي تولى الحكومة الإسرائيلية بعد ذلك، ورغم إشاعة الصهيونية أن هؤلاء القتلى أقدموا على عملية انتحار جماعي إلا أن الحقيقة أن الصهيونية هي من سفكت دمائهم، كما وقعت حادث مماثلة للسفينة “ستروما” التي غرق فيها مئات اليهود، واستغلتها الصهيونية لدعوة اليهود إلى عدم الانضمام للحلفاء في الحرب ضد النازيين، رافعين شعار “اليهودي لا يقاتل إلا دفاعا عن الوطن” وكان الوطن المقصود هو فلسطين.
وقد عارضت المنظمات الصهيونية عمليات إنقاذ اليهود عام 1941 وإرسالهم إلى مناطق آمنة، واعتبرت ما يجري معاداة للسامية، وقامت بعمليات إرهابية لتخريب تلك الملاجئ الآمنة في الولايات المتحدة عام 1944 للحيلولة دون توطين (150) ألف أسرة في الولايات المتحدة، ورفعت الصهيونية سياسة أن اليهود يجب أن يذهبوا إلى فلسطين.
الجيش والكشافة
أما ما يتعلق بالجيش اليهودي، فكانت الحرب العالمية الثانية فرصة ذهبية للحركة الصهيونية لبناء جيش قوي ومدرب يستطيع تحقيق الحلم الصهيوني، وكان أفضل نجاح حققه “بن غوريون” عام 1944 هو تشكيل اللواء اليهودي التابع للجيش البريطاني، بضغط أمريكي، وكان ذلك اعترفا بالقومية اليهودية، وتمكينها من قوات مدربة لانجاز هدفها في فلسطين بالقوة، وعندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها كانت فكرة الإرهاب تغلغلت في دماء الشبان اليهود، حتى غدا ذلك الإرهاب ضد الفلسطينيين جزءا من تفاصيل الحياة اليومية، وشهدت تلك السنوات الكثير من الإرهاب والاغتيالات كان أبرزها اغتيال الوزير البريطاني اللورد “موين” لانتقاده للصهيونية وتشبيهه لها بالنازية [3].
كان حصول الصهيونية على المعلومات الدقيقة عن القرى والمدن الفلسطينية، وكافة تفاصيلها أمرا ضروريا قبل إخلاء فلسطين من أهلها، لذا شُكلت فرقا من الكشافة والمتنزهين تقوم برحلات على الأقدام منذ العام 1942 تجوب المناطق العربية، وترسم خرائطها الجغرافية والسكانية والاقتصادية، وأهم الشخصيات المؤثرة اجتماعيا، والشخصيات التي يمكن أن تتعاون أو تشكل عقبة أمام المشروع الصهيوني، وأسماء القيادات العربية، حتى عدد الأشجار، وأسماء مالكي الدكاكين والمحلات، وعدد السيارات وأسماء مالكيها، والقرى المقترحة لمحوها من الخريطة، وأفضل الطرق لمهاجمتها، عند قيام دولة إسرائيل، ووقعت الكثير من المذابح بناء على تلك المعلومات، وبأيدي أولئك الجنود الذي تدربوا تحت رعاية الحلفاء ودعمهم الحرب العالمية الثانية، فكانت قرية “صفصاف” أول قرية فلسطينية تسوى بالأرض في منطقة الجليل، ووقعت مذابح في قرى” دير ياسين، وصالحة ، وشرفات، والصفا.
وبحلول العام 1949 كانت إسرائيل وضعت حوالي (150) ألف مستوطن يهودي في بيوت مسروقة من أصحابها بعد التهجير بعد نكبة 1948، كان سياسة إسرائيل الإرهابية مدروسة، ولعبت الدعاية دورا في تضخميها وخلق حالة إرعاب للفلسطينيين حتى يهجروا قراهم وبيوتهم.
—-
[1] صدرت الطبعة الإنجليزية من الكتاب في بريطانيا عام 2016م، أما الطبعة العربية فصدرت بترجمة محمد عصفور، عن سلسلة “عالم المعرفة” بالكويت في مايو 2018، في (527) صفحة.
[2] يذكر الكتاب أن الغالبية العظمى من المعارك التي جرت في فلسطين وقعت على الأراضي التي كانت مخصصة للفلسطينيين وفقا لقرار التقسيم (181) ، وعندما توقف إطلاق النار في الهدنة عام 1948، كانت إسرائيل قد استولت على (56.5%) من فلسطين التي عينتها الأمم المتحدة، لذا قامت إسرائيل بعمليات تهجير واسعة للفلسطينيين من تلك الأراضي حتى تجعل ما سُرق غير قابل للاسترجاع مرة أخرى.
[3] وعندما أعُدما قاتلي “موين” صورا على أنهما شهيدين، ثم دفنت رفاتهما في بهو البطولة في القدس عام 1975م، وأصدرت إسرائيل طابعا تذكاريا لهما في 1982.
—
* المصدر: إسلام أون لاين