الإمام القرضاوي، يرحمه الله تعالى، فقدناه جسداً وصوتاً وحياة، لكننا لم نفقده فكراً وكتاباً وتوجيهاً وتربية، وهكذا هم الربانيون يسيرون مع الأجيال وتسير الأجيال معهم!
يغرفون من مَعين علمهم، ويسيرون على أنغام حكمتهم، ويستنيرون بنور علمهم وروعة وعظهم وجمال سيرتهم أحياء وأمواتاً، ليت الجيل يكون متابعاً شغوفاً لسيرة العلماء والأبطال والشهداء؛ علمهم وثقافتهم ومشاريعهم وجهادهم ومؤلفاتهم وفتاواهم ومنهجهم في الإصلاح والدعوة والتربية وتحملهم في طلب العلم والصبر على مشاق الحياة.
إن هذا خير لهم من متابعة المشاهير من ذوي العلم الضحل والإنجاز المعدوم والخلق السيئ.
وليتنا نحن الكبار نعلّم الأبناء والأحفاد ما تعلمناه من الإمام القرضاوي، يرحمه الله تعالى.
لقد تعلمتُ من فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي: نعمّر ولا ندمر، نجمع ولا نفرّق، نيسّر ولا نعسّر، نأتلف ولا نختلف، نبشّر ولا ننفّر، نقدّم ما حقه التقديم، ونؤخّر ما حقه التأخير، وأن نكون من أمة الوسط، وأن نتعلم فقه الأولويات والمقاصد والموازنات، وأن ندعو إلى الله تعالى غير خائفين ولا مترددين.
تعلمتُ من الإمام القرضاوي التواضع وقبول الرأي الآخر واحترامه، بل ودراسته والإفادة منه، تعلمت من الإمام القرضاوي الرغبة الصادقة في الإصلاح والدعوة للخير والتيسير في الفتوى والتبشير في الدعوة.
تعلمتُ منه، رحمه الله تعالى، التفكير والابتكار والإبداع في تقديم الأفضل والأمثل والأحسن في العمل المؤسسي الدعوي الإسلامي؛ فهو صاحب فكرة الهيئة الإسلامية العالمية، وفكرة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وهو رئيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، وقام بإنشاء وتأسيس كثير من المؤسسات الخيرية.
أما مؤلفاته فقد تعددت وتنوعت، أسلوب واضح عذب سلس، كلمات منوعة بتعبير رائع وجميل يستطيع الإمام الخطيب والداعية أن ينقلها إلى جمهور المسجد.
دَعُونا نفكر ونبتكر أساليب تجعل الأجيال تقترب من فكر العلماء ومؤلفاتهم وسيرتهم، مقرّين ومرددين: كلٌّ يُؤخذ بكلامه ويُرَد إلا المعصوم محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ليتنا نأخذ كتاباً واحداً ونحوّله لمسرحية يراها الأجيال ويستفيدون من ذلك الحدث التاريخي والموقف الشجاع الذي حصل بين الحجاج الطاغية، والإمام العالم الرباني سعيد بن جبير، يرحمه الله تعالى، وقد أطلق الإمام القرضاوي على هذا الكتاب اسم «عالم وطاغية».
وليت الأبناء يتدارسون مع مشايخهم وأساتذتهم كتاب «فقه الزكاة»، وكتاب «الحلال والحرام في الإسلام».
وهذه بعض مؤلفاته، رحمه الله تعالى: «فتاوى معاصرة»، «تيسير الفقه للمسلم المعاصر»، «من فقه الدولة في الإسلام»، «فقه الزكاة»، «فقه الطهارة»، «فقه الصيام»، «فقه الغناء والموسيقى»، «فقه اللهو والترويح»، «دراسة في فقه المقاصد»، «في فقه الأقليات الإسلامية».
لقد سافرتُ الصين مع فضيلة الإمام القرضاوي، فصدع بحقوق المسلمين المظلومين جريئاً حكيماً، وفرح الناس بقدومه، وفي الأماكن التي لا يستطيع المشي كانوا يحملونه بكرسيه، وكان يتلو آيات ذي القرنين من سورة «الكهف» عندما وصلنا إلى سور الصين!
وكان يتفقد جميع الإخوة المسافرين معنا أبوة وأخوة ورحمة.
كان عزيز النفس أبيّاً متحدياً لظلم الطغاة، شاعراً حراً مستعلياً بإيمانه وعقيدته وصلته بربه سبحانه وتعالى، فقد ورد في شعره:
ما الدعوات يهزمها الردى يوماً وفي التاريخ بر يميني
ضع في يدي القيد، ألهب أضلعي بالسوط ضع عنقي على السكين
لن تستطيع حصار فكري ساعة أو نزع إيماني ونور يقيني
فالنور في قلبي وقلبي في يدي ربي وربي ناصري ومعيني
سأعيش معتصماً بحبل عقيدتي وأموت مبتسماً ليحيا ديني
إن مواقف العلماء الربانين والأئمة المهديين يجب أن تُقَرَّب إلى الأجيال، وأن تُدرّس حتى ينطلق الجيل مؤمناً محباً لدينه مقتفياً هدي رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، مقتدياً بسيرة رجالات الإسلام في مختلف العصور؛ حتى لا يلتفت إلى صيحات هوجاء ومذاهب جوفاء من الإلحاد والكفر والشذوذ والخمور والفجور، وحتى لا يلتفت لتلك الأودية السحيقة من الكفر والفسوق والعصيان.
رحم الله العالم الرباني والداعية المجاهد فضيلة الشيخ د. يوسف القرضاوي، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله ولجميع المسلمين، وأعزي أهله وأحبابه:
وما الدهرُ إلا هكذا فاصبر له رَزِيَّةُ مالٍ أو فِرَاقُ حبيبِ(1)
والحمد لله رب العالمين.