كل البشر بدون استثناء سيمر بلحظة خروج الروح من بدنه سواء على فراش الموت بسبب المرض أو دونه أو القتل أو الغرق أو الحرق، أو الحروب أو غير ذلك من الأسباب، تلك اللحظات القدرية التي كتبها الله على كل إنسان في هذه الحياة ومن حول هذا الإنسان الذي انتهى أجله يلاحظ أقاربه وذويه ومن حوله ما يعانيه من سكرات الموت وما يصاحبه من شدائد وما يظهر عليه من أمارات مشاهداته لبعض المغيبات عنهم وآثار قبض الروح، إنه القدوم على عالم البرزخ والانتقال إلى ما بين الحياتين الدنيا ويوم القيامة.
وكل من حول المحتضر عاجز عن تقديم العون لبقائه في الحياة والغالب الأغلب يصاب بالحيرة والاضطراب والهلع والبكاء مع التسليم المطلق لقدرة الله الذي لا يُعجزه شيء.
قال تعالى: [فَلولا إذا بَلَغَتْ الحُلقُومْ * وأنتُم حينئذٍ تَنْظُرون * ونَحنُ أَقْرَبُ إِليهِ مِنكُم ولكِنْ لا تُبْصُرون * فَلولا إِنْ كُنتُم غَيْرَ مَدِينينَ تُرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُم صَادِقِينْ] (الواقعة: 83 – 89)
(فَلَولا إِذَا بَلَغَتْ الحُلْقُوم): فهلا إذا بَلغت الروحُ الحلقومْ.
(وأنتُم حينئذٍ تَنْظُرون): تنظرون المحتضر في هذه الحالة وهو يستقبل عالماً لا عهدَ له به، ولا يَملكُ من أمره شيئًا إلا ما اِدّخرهُ من عمل، وما كسَب من خيرِ أو شر، والروح التي خرجتْ من الجسد و أُعلِنتْ وفاةُ هذا المُسجّى لا تملكُ الإخبار عمّا تُشاهد وقد تمايزت عمّا حولها، فالبدنُ يراهُ الحاضرين لحالة الموت، ولكنهم لا يبصرون الحقائق، والأمر خارجٌ عن قُدرتهم وعلمهم المحدود، وهُنا ينتهي مجالُ البشر ولا يجادلون أنهم عجزةٌ قاصِرون، هنا تتفرّدُ قدرةُ الخالقُ العظيم ويصبحُ هذا المخلوق تحت قبضة من لا تخفى عليه خافية ويخلص الأمر كله لله للإثابةِ ولا شبهة ولا جدال ولا مُحال.
(ونَحنُ أَقْرَبُ إِليهِ مِنكُم ولكِنْ لا تُبْصُرون): والله أقربُ إلى الميت من الحاضرين بعلمه وملائكته ولكنهم لا يبصرون وفي ظل هذه المشاعر الواجفة الراجفة الآسفة يجيء التحدي الذي يقطع كل قول وينهي كل جدال.
(فَلولا إِنْ كُنتُم غَيْرَ مَدِينينَ تُرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُم صَادِقِينْ): فهلّا إذا كنتم تزعمون أنكم غير مبعوثين ولا محاسبين ومُجازين (تُرْجِعُونَهَا) تُرجعون الروح إلى بدنها (تفسير السعدي، 21 / 574).
فلو كان الأمر كما تقولون، أنه لا حساب ولا جزاء فأنتم إذًا طُلقاء غير مدينين ولا محاسبين فدونكم إذن فلتُرجعوها وقد بلغت الحلقوم – لتردّوها عمّا هي ذاهبةٌ إليه من حساب وجزاء وأنتم حولها تنظرون، وهي ماضيةٌ إلى الدينونة الكبرى وأنتم ساكنون عاجزون (في ظلال القرآن، ٦ / 247).
هنا تتلاشى وساوس إبليس وشُبهات الملاحدة وظُنون المشركين أمام حقائق الوجود ونواميس الله في خلقه، وها هي الروح ترجع إلى خالقها بأمره وتترك البدن في قبره، وتتكشف لها معالم جديدة ذكرها الله في كتابه العزيز.
وهكذا فإن الناسُ على ثلاثة أصناف، كما في قوله تعالى: (فأما إِن كانَ من المُقربينْ * فَرَوْحٌ ورَيحانٌ وجنّت نَعيم * وأما إنْ كانَ من أصحابِ اليمين * فَسلامٌ لَكَ من أصحابِ اليَمينْ* وأما إنْ كانَ من المُكذّبينَ الضّالين * فنُزُلٌ من حَميم وتَصليةُ الجحيم) (الواقِعة: ٨٨ – ٩٤).
فالصنف الأعلى (المقربون):
(فأمَّا إِن كَانَ): الميت.
(مِن المُقّربِين): وهُم الذين وحّدوا الله، وأفردوا له العبادة، ونَفّذوا أوامر شرعه ونواهيه وتركوا المحرمات بأنواعها واجتهدوا في الطاعات الواجبة والمستحبّة ابتغاءَ وجهِ الله.
(فَرَوْحٌ): (ف) لهم، (رَوحٌ): أي إراحةُ وطُمأنينةٌ وسعادة، وسُرور وبهجة ونعيم القلب والروح (تفسير السعدي، 2 / 575). وهذه يجدها في عالم البرزخ عقب الموت وتستمر حتى يدخل الجنّةَ يوم الدين (الحياة البرزخية، الشيخ، ص 72).
(وَرَيْحَان): وهو اسم جامع لكل لذة بدنية من أنواع المآكل والمشارب وغيرهما، وقيل: الريحان هو الطيب المعروف، فيكون تعبير بنوع الشيء عن جنسه العام.
(وجَنّتُ نَعِيم): جامعة للأمرينَ كلاهما، فيهما ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فيبشّر المقربون عند الاحتضار بهذه البشارة التي تكاد تطير منها الأرواح من الفرح والسرور (تفسير السّعدي، 2 / 575).
الصنف الثاني (أصحاب اليمين)؛ ممن خرجت أرواحهم وفارقت أبدانهم: (وأما إنْ كانَ من أصحابِ اليمين * فَسلامٌ لَكَ من أصحابِ اليَمينْ).
(أصْحَابِ اليَمينْ): وهُم الذين نجحوا في توحيد الله وإفراده بالعبادة وابتعدوا عن المحرمات وحصل منهم بعض التقصير في بعض الحقوق التي لا تُخلّ بتوحيدهم وإيمانهم (السعدي، المصدر السابق، (2 /575).
(فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أصْحَابِ اليَمِينْ): فيستقبلُ بتحية طيبة.
تحييه بها ملائكة الرّحمة، فتقول له؛ سلامٌ لك أي: أمن وطمأنينة وتحية طيبة موجهة لك، حالة كونك من صنف أصحاب اليمين، وينقل إليه سلام إخوانه من أصحاب اليمين الذين سبقوه، وما أندى السلام ساعتئذٍ وما أحبه، حين يتلقّاهُ وقد بلغت الحلقوم، فيطمئنُ باله ويشعر بالأنسِ في الصحبة المقبلة مع أصحاب اليمين (الحياة البرزخية، ص 73).
الصنف الثالث (المكذَبين الضالين)؛ (وأَمَّا إنْ كَانَ مِنَ المُكذّبينَ الضَّالِّينَ * فنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيةُ جَحِيم): أي وأما إن كان الميت من المكذبين للرسول والمكذبين بالقرآن وبيوم الدينِ، وهم صنف أصحاب الشّمال فقد جاء القرآن ببيان أن ملائكة العذاب يعذبون وجوههم وأدبارهم ويقولون لهم ذوقوا عذاب الحريق. (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفّى الَّذِينَ كَفَرُواْ المَلَائِكةُ يَضْرِبُونَ وُجُوَهُهمْ وأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الحَرِيقْ) (الأنفال 50).
وضيافتهم في جهنم ماءٌ حارٌّ يقدم لهم ليشربوا وهم شديدو الظمأ ويدخلون جهنم ويحترقون بنارها ولهيبها (في ظلال القرآن، 6 / 2473).
بعد هذا التفصيل العجيب الذي يُخاطب رصيد الفطرة البشرية والعقول المستقيمة، والأرواح الشّفافة والنفوس الطاهرة أو المنغمسة في الشهوات والشبهات تأتي الخاتمة بتأكيدِ الحقائق وتنزيه الرّب العظيم (معارج التفكر (8 / 515 – 518).
قال تعالى: (إنَّ هَذَا لَهْوَ حَقُ اليَقِين * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمْ)
(إنَّ هَذَا): الذي ذكره الله تعالى من جزاء العباد بأعمالهم خيرها وشرّها، وتفاصيل ذلك.
(لَهْوَ حَقُّ اليَقِينْ): الذي لاشكّ فيه ولا مريَه، بل هو الحق الثابت الذي لابد من وقوعه وقد أشهد الله عباده الأدلة القواطع على ذلك، حتى صار عند أولي الألباب كأنّهم خائفون منه مشاهدون له، فحمدوا الله تعالى على ما خصّهم به من هذه النعمة العظيمة والمنحة الجسيمة ولهذا قال تعالى: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمْ) (الواقعة 96) فسبحان ربنا العظيم وتعالى وتنزه عمّا يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيرا (تفسير السعدي، ٢ / 576).
خلاصة:
إن هذا التصوير الرباني لحالة المحتضر عند خروج الروح، وأصناف البشر في القدوم على خالقهم العزيز، بهذه الدقة المتناهية لا يوجد في اي كتاب ولا ثقافة ولا ديانة ولا معتقد ولا حضارة من الحضارات الحالية أو البائدة، وانما فقط في كتاب الله العزيز الذي جعله الله المعجزة الخالدة ومنهجه في الحياة.
___________________________________
1- القرآن الكريم، سورة الواقعة، الآيات: ٨٨ – ٩٤.
2- الإيمان باليوم الآخر، علي محمد الصلابي، موسوعة أركان الإيمان، دار ابن كثير، بيروت، ط٣، ٢٠١٩م، ص ٤٠ وما بعدها.
3- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن السعدي، مؤسسة الرسالة، ٢٠٠٠م.
4- الحياة البرزخية؛ دراسة تأصيلية علمية، عبد الستار أحمد الشيخ، دمشق، دار القلم، ٢٠٢١م.
5- في ظلال القرآن، سيد قطب، ج٦.
6- معارج التفكر ودقائق التدبر، عبد الرحمن حسن حبنَّكة الميداني، دمشق، دار القلم، ٢٠١٠م، ج٨.