يدخل تحت التناقض بين الخطاب والنص، ما نراه في رواية مثل «حي الأميركان» للكاتب اللبناني جبور الدويهي (دار الساقي، لندن، 2014م)، وتحكي عما تسميه تصاعد التيارات السُّنية المتشددة في مدينة طرابلس اللبنانية، وتشرح الظروف الاجتماعية والسياسية وتفاصيل الحقبة الزمنية التي تحول فيها بطل الرواية إسماعيل بلال محسن إلى إرهابي، لينتهي به المطاف مطلوباً دولياً على ذمة تنظيم “القاعدة”.
وفي حوار مع كاتب الرواية جبور الدويهي قال: “تخيَّلت مصائر الأبطال قبل أن أكتب الرواية، كان من غير الممكن أن أقبل كتابة رواية يفجِّر فيها الشخص الرئيس نفسه، لم أنجح في تقبُّل مثل تلك الفكرة، فكنت مصمّمًا، بشكل مسبَق، على منعه، لأن هناك ما يستحقّ الحياة، ولكن، أنا أعددت لهذا التردُّد وهذا الانكفاء، بأني جعلت من إسماعيل شخصًا غير مُعَدّ كفايةً، وأرسلته إلى العراق في وقت لم يكن قد اكتمل فيه تدريبه وتجنيده؛ لذلك أصيب، في الحاوية التي نقلته من العراق، بنوع من الأزمة والهذيان، وهذا يبرِّر تردُّده وتراجعه”. (أفردت له جريدة أخبار الأدب ملفاً خاصاً في عددها (1463) الصادر بتاريخ 8/ 8/ 2012).
ومثل رواية الدويهي رواية أخرى للكاتب المغربي طارق البكاري «القاتل الأشقر» (دار الآداب، بيروت، 2019م)، وتحكي قصة الصحفي وليد معروف الذي قبل عرضًا من صحيفة بريطانية بكتابة موضوع صحفي من قلب تنظيم “داعش”، فتسلل إلى التنظيم، وتورط معه في بعض العمليات، وفي واحدة من تلك العمليات يجد نفسه محتجزًا في أحد مباني مدينة عين العرب “كوباني” تحت وابل من الرصاص مع الإرهابي المعروف باسم ركن الدين بيبرس أو “الأشقر”، الذي أصيب برصاصة طرحته أرضًا، فيبدأ في تلك اللحظات يقص على الصحفي حكايته والكيفية التي تحول بها إلى إرهابي.
جوائز للتشهير
أضف إلى ما سبق روايات أخرى تميل إلى الدعاية أكثر من الفن، وللأسف فإن كثيراً من روايات الدعاية نالت جوائز أدبية شهيرة قيمتها المادية مرتفعة للغاية بالنسبة لغيرها بسبب ما تحمله من تشهير ضمني بالإسلام، وتحميله أسباب الفتن الطائفية في البلاد العربية، منها:
– “فرانكشتاين في بغداد” للعراقي أحمد سعداوي (منشورات الجمل، بيروت- بغداد، 2013)، وفيها يستوحي الكاتب قصة فرانكشتاين ليروي قصة ذاك العراقي في روايته «فرانكشتاين في بغداد» (بالفرنسية) الذي يقوم بجمع أشلاء ضحايا الانفجارات الإرهابية اليومية في بغداد ويضم بعضها إلى بعض للتحول إلى رجل شبيه بـ«فرانكشتاين» تدب فيه الحياة، كائن عجيب يتكون جسده من قطع مختلفة من أجساد عراقيين من طوائف أعراق مختلفة، وكأنه يمثل العراق بأكمله، لكن هذا المارد العجيب الذي دبت فيه الحياة قام لينتقم من القتلة، والرواية وأشباهها تصب في الإلحاح على ما يسمى “الإسلام السياسي” وما يستتبعه من الإرهاب وإراقة الدماء.
– “فئران أمي حصة” للكويتي سعود السنعوسي (الدار العربية للعلوم ناشرون- منشورات ضفاف، بيروت، 2015)، وفي هذه الرواية، يتنبأ بالمستقبل، تحديدًا عام 2020، وتحديده هذا التاريخ لانفجار الفتن الطائفية والقتل على الهوية ربما وجده متلقي روايته شديد التفاؤل، حيث أجّل مشاهد الخراب والدمار وتقسيم المدينة الواحدة إلى مئات الحواجز والمناطق بين مشايعي كل طائفة وأخرى، وربما كان السنعوسي وهو يتابع أخبار تفجيرات القديح والعنود شعر هو الآخر بأنه كان مفرطاً في التفاؤل وليس التشاؤم.
خروج الأدب عن وظيفته
ويمكن أن نضيف إلى ما سبق موضوعاً جيداً كتبه حبيب مونسي على موقعه بعنوان “جيلالي خلاص” رواية الرجل الذي يكتب على راحته- الإرهاب في الرواية الجزائرية، مقاربة في الرؤية، والتوظيف، والآثار الجانبية، الجزء الأول. 15 نوفمبر 2016م، رابط:
قال فيه: إننا حين نقدم للقارئ شخصاً ننعته بالإرهابي، ونعرض أفعاله، ونبسط دواعيه وأسبابه، ونتفنن في إخراج مواقفه، لا نفعل ذلك لأن رغبتنا الأولى هي التشهير بالإرهاب، وفضح جرائمه، وكشف بشاعة أفعاله.. فكل ذلك ليس مطلباً أدبياً ولا ديدناً فنياً، فإن فعلنا ذلك أخرجنا الأدب عن وظيفته، وأفرغنا طاقته في فضاء ليس له، فهناك معارف أخرى تتولى التشهير، والفضح، والكشف، ولكن الذي يهم الأدب والفن هو “الإنساني” في هذا كله، فحين العرض لا ينسى الأديب والفنان أنه يعرض “شخصاً”: هو كل إنسان سقط في أتون الإرهاب لسبب أو لآخر.. وستكون مصاحبة “الشخص” في دوامات المهوى، مصاحبة “المعايشة” التي تُكسب الأدب دوراً من أخطر الأدوار على الإطلاق، التي ربما يقصرُ الخطاب الديني عن الإحاطة بها؛ لأن المعايشة ضرب من التقمص الذي يفتح العين على حقيقة المزالق التي تلفعت بأثواب الدين، والسياسة، والتضحية..
لحية وقميص
ويواصل مونسي: لا بد أن يفهم القارئ أن نعت “المتدين” لا ينصرف أبداً إلى “المسلم” وحده، بل المتدين هو كل من اعتنق فكرة سماوية كانت أو أرضية، إيمانية أو كفرية.. فتديُّنه في انغلاقه داخل تلك الدائرة، ومحاسبة غيره انطلاقاً من منظورها.. وللأدب والفن أن يناقش هذا الضرب من التدين، وأن يكشف هذا اللون من الإيمان، ويجلي كيف ينتهي بصاحبه إلى الإرهاب فكراً وفعلاً، ساعتها سنكون أمام وظيفة أخرى تقع على عاتق الأدب، حين يصحح المفاهيم، ويعطي للمصطلحات حقها من الوضوح والبيان.. لا أن يفعل ما فعلته الكتابات المستعجلة، التي تُنسب إلى الأدب، حين قدمت كل متدين “مسلم” ذي لحية وقميص على أنه إرهابي بالقوة، وإن لم يكن بالفعل، ولما: «نشب الصراع في الجزائر، أخذت أصابع الاتهام “الإعلامية” تشير إلى “الإرهابيين الإسلاميين” بأنهم هم الذين يقومون بالقتل، والذبح، وعمليات التفجير، والخطف، وقطع الرؤوس.. وغير ذلك من الفظائع التي هي بعيدة كل البعد عن روح الإسلام وتعاليمه السمحة، ومنهجيته الإنسانية، إلا أن أصابع الاتهام ظلت تشير إلى هذه الناحية دون غيرها، حتى أصبحت وكأنها بديهة من البديهيات»، ويشير الكاتب إلى الأصوات الكثيرة المتطرفة في الحكم، وظهر في كتاباتها تلازم شرطي بين التدين والإرهاب.
فرض عالمي
ويضيف مونسي: “والغريب أن الرواية التي تصدت لموضوع الإرهاب لم تكتب سوى هذه التهمة، ولم تردد سوى هذا الافتراء، ولم تجد في الإرهاب إلا لحية وقميصاً.. وفاتها أن الإرهاب غير ذلك، وأنه ليس فعلاً دموياً، وإنما الإرهاب وضع مُعطى، فرضته أوضاع عالمية على العرب والمسلمين، في مقياس ديني/حضاري”.
إننا حين نستعرض نصوص الروايات المستعجلة، نضع أصابع الاتهام على كثير من الفقرات والجمل، التي ما كان لها أن تكون في النص لولا ذلك الظلم الواقع على جهة دون أخرى، فليس للأدب أن يحكم أو يقاضي طرفاً في الظاهرة المدروسة، ولكن عليه أن يكشف في جميع الاتجاهات أسبابها، مداخلها ومخارجها، فيرتفع بالأدب والفن من وحل شهادة الزور إلى طهارة الرأي القائم على التدبر والتأمل، مهما كانت قيمة ذلك الرأي، ومهما كانت مشاربه التي استقى منها مادته، إنه رأي تأسس على علم وتأمل، وتلك هي القاعدة الصلبة التي يقوم عليها بنيان الفن.
الإرهاب والتراث
وقد حاول نقاد يساريون إرجاع مسألة الإرهاب إلى التراث الإسلامي قديماً، فقد خصص جابر عصفور أكثر من كتاب للحديث عن الإرهاب، لدرجة أنه حوّل كتابه “نجيب محفوظ –الإنجاز والقيمة- الدار المصرية اللبنانية للكتاب 2010م”، الذي يفترض فيه أن يضيء أدبه ليتحدث عن الإرهاب الديني (الإسلامي بالطبع!)، ومن كتبه التي تناولت الموضوع الإرهابي: أنوار العقل، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1996م. ضد التعصب- الهيئة المصرية العامة للكتاب 2000م. مواجهة الإرهاب: قراءات في الأدب المعاصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب, 2003م- ومقالات غاضبة- دار ميريت- الطبعة الأولى- القاهرة، 2008م.
في كتابه “ضد التعصب”، عالج الإرهاب من خلال التراث القصصي في أعمال ابن المقفع وإخوان الصفا وألف ليلة وليلة وكتابات الأصفهاني، والأزدي، والمرزوي، والتميمي، وغيرهم، وهي معالجة تتطور فيما بعد إلى إدانة الإسلام ذاته بوصفه ثقافة إرهاب! وهو ما يناقض الواقع ويخالف الحقيقة، حيث إن الحوادث العنيفة التي سجلها التاريخ الإسلامي، لم تكن منهجاً بقدر ما كانت سلوكاً خاصاً وحالة مؤقتة، تنتهي بعد حين بالمواجهة أو بعوامل أخرى، لأنها تظهر من خلال أفراد أو مجموعات محدودة، أو نتيجة صراعات سياسية بين فرقاء متكافئين يعتمدون في صراعهم على قوانين القتال وقواعده السائدة آنئذ في الحروب والمعارك بين الجيوش!
ادعاء يجافي الحقيقة
والمفارقة أن جابر عصفور يدعي أن روايات الإرهاب الحديثة أو المعاصرة تمثل نُدرة في تطرقها إلى “نموذج” المتطرف الديني، ويزعم أن “الخوف الذي ترسّخ وتأصّل في نفوس كثير من الكتاب” ناجم عن كون نموذج المتطرف الديني (الإرهابي) ما زال نموذجاً “نائياً عن الوعي المحدث”، والسبب انحياز الرواية إلى الأبطال المحدثين الذين “وضعتهم في الصدارة”، ويرى عصفور أن هذا النموذج ظل “مسجوناً في قالب جاهز” أسهمت في ترسيخه “أجهزة إعلام مُعادية”، ويأخذ على الأجهزة الأيديولوجية للدولة (العربية) تصويرها ظاهرة الإرهاب (الديني) ونموذج المتطرف الإرهابي معزولَين عن الأسباب التي أدت إلى تكونهما، ويشير عصفور إلى وقوع ظاهرة التطرف الديني في خانة “المحرّم” (التابو)، مما جعل تناول شخصية المتطرف الديني والنفاذ إلى أعماقه “ضرباً من المغامرة التي لا تعرف عواقبها”!
الهتاف لصنّاع الإرهاب
وهذا كلام يجافي الواقع، حيث تغرق رواية الإرهاب المكتبات، وتصدر المطابع مع مطلع كل صباح مزيداً من الروايات التي تدعي أنها تعالج الإرهاب، بل إنها تجاوزت وصف شخصية المتطرف الديني كما يسميه عصفور إلى النيل من الإسلام نفسه، وتقديم غير المسلمين في صورة نقية زاهية مسالمة، لدينا كتب كثيرة تحمل اسم رواية، ولكنها كما سنرى مجرد منشورات تهتف لصناع الإرهاب، وتعمل على تأصيل الكراهية ضد الإسلام والمسلمين، ضحايا الإرهاب وصناعه العالميين والمحليين!
لقد تناول عصفور أعمالاً روائية وقصصية ومسرحية وفيلمية على مستوى العالم العربي لنجيب محفوظ، والطاهر وطار، وعبدالحكيم قاسم، وفتحي غانم، ويوسف إدريس، وسعدالله ونوس، ولينين الرملي، وهذه الأعمال في حقيقة الأمر باستثناء بعضها القليل تذهب بعيداً في تفسير العلاقة بين أنظمة اجتماعية ومسؤولين تفسيراً مغرضاً، وتقدم ذرائع مختلفة زائفة لوجهات النظر الروائية التي يتبناها المؤلف، الذي لا يتعاطف عادة مع الأبرياء والضحايا بقدر ما يعرض رؤيته وأيديولوجيته المنحازة التي تتراوح بين العلمانية واليسارية والطائفية.