رغم ما يسربه الاحتلال من معلومات كاذبة، بعضها يجري تسريبه عمداً لفضائيات عربية ويجري بثه، تتعلق بشروطه هو لوقف إطلاق النار ورفضه مقترحات مصرية لهدنة أو تهدئة جديدة في غزة، تؤكد مصادر فلسطينية مطلعة لـ “المجتمع” أن تعثر المفاوضات يرجع لشروط حماس ومقاومة غزة الجديدة.
بحسب المصادر، سعت حماس من بداية الحرب الصهيونية الفلسطينية الرابعة في غزة لفرض معادلة جديدة باعتبار المقاومة في غزة هي حامية القدس والمسجد الأقصى، لهذا تشترط وقف العدوان الصهيوني علي القدس والاستيلاء على منازل الفلسطينيين في حي الشيخ جراح.
وأنه لهذا الغرض عدلت المقاومة استراتيجيتها للردع مع الاحتلال، بالتوازي مع تحسن قدراتها العسكرية التي طالت كل الأراضي الصهيونية وبأسلحة جديدة صُنعت محلياً، لتصبح “قصف إسرائيل مقابل أي عدوان علي القدس والمقدسات”.
استراتيجية المقاومة في آخر حرب (الثالثة عام 2014م) انتهت إلى معادلة ردع جديدة هي “القصف مقابل القصف” أو “منزل مقابل منزل” ما أدي لردع الاحتلال عن مهاجمة غزة أو اغتيال أي مقاوم كما كان يفعل سابقاً بحرية.
لكن استراتيجية الردع الجديدة التي سعت لها حماس هي (غزة ـ القدس) أي أنه في حالة الاعتداء الصهيوني علي القدس أو المقدسات والمصلين في الأقصى، ستقصف حماس والمقاومة تل أبيب والقدس وكل المغتصبات الصهيونية.
جزء من تحرك حماس جاء أيضاً لفرض وجودها بالقوة في الضفة الغربية بعدما منعها الاحتلال وسلطة الرئيس عباس من ذلك بإلغاء الانتخابات العامة التي كانت تشير لفوزها في الضفة أيضاً بجانب غزة، لهذا يقول الصهاينة أنها نجحت في فرض نفسها كحامية للقضية الفلسطينية وممثل وحيد لها بعدما اصبحت السلطة الفلسطينية حامية لأمن “إسرائيل” عبر التنسيق الأمني.
اعترفت شبكة “سي إن إن” الأمريكية بهذا التعثر في المفاوضات بسبب القدس وشروط “إسرائيلية” أخري نقلاً عن قيادي في حماس.
قال إن جهود كل من قطر ومصر من أجل التوصل إلى قرار للتهدئة تعثرت بسبب عقبتين؛ تتمثل أولاهما في إصرار تل أبيب على أن تأخذ المقاومة المبادرة في وقف إطلاق النار، وهو الأمر الذي رفضته حماس، بينما العقبة الثانية هي إصرار الحركة على إنهاء الاستفزازات بالأقصى وقرار إخلاء الشيخ جراح، أي ربط غزة بالقدس.
دخلت الحرب لفرضها
هذه المعادلة سعت حماس لفرضها منذ بداية الحرب، بل هي دخلت الحرب أصلاً لفرضها على الاحتلال، فهي ليست صدفة، فقد بدأ الأمر بتحذير كتائب القسام عبر محمد ضيف قائدها وأبو عبيده المتحدث باسمها من التوقف عن الاعتداء علي القدس وإلا سترد المقاومة.
أمهلت القسام الاحتلال حتى السادسة مساء 10 مايو 2021م ليوقف عدوانه وينسحب من المسجد الأقصى بعد عدوانه على المصلين ومنعهم من العشر الأواخر من رمضان، لكن الاحتلال سخر من تحذيرات القسام ولم يكن يعلم ما تعده له، ففاجأته برشقة صواريخ علي القدس مباشرة كرسالة على طول ذراع المقاومة.
فوجئ الاحتلال بما جرى، واعترفت بهذا الصحف الصهيونية، فصحيفة هآرتس قالت 18 مايو 2021م إن “إسرائيل فوجئت تماماً بأخذ حـماس زمام المبادرة، وجرأتها وقدرتها القتالية التي ظهرت بإطلاق آلاف الصواريخ على الجبهة الداخلية الإسرائيلية”.
وأضافت أن الجيش الصهيوني “لم يكن جاهزاً لأنه لم يتوقع ذلك، لهذا فهو يقتل المدنيين في غزة ويهدم المباني لتحقيق أي نصر ويفقتر لبنك أهداف، وينفذ غارات غير مهمة والجيش غير قادر حتى على الدخول البري لأنه ليس جاهزًا للقتال”.
قالت هآرتس أن “الحرب على غزة هي الأفشل في تاريخ “إسرائيل” ويجب وقفها فورا بدل اللهاث خلف صورة نصر، فقد كشفت الحرب عن عدم جاهزية الجيش وبؤس أدائه في حين ظهرت حكومتنا عاجزة مشتتة”.
قال المحلل العسكري لصحيفة “هآرتس” عاموس هرئيل إنه “تم جر “إسرائيل” لمعركة هدفها الردع وليس الحسم، والاستمرار بها على أمل أن بعض الهجمات الاضافية المفاجئة سوف تحسن جوهريا ميزان الردع لا تلغي المخاطر الناتجة عن استمرار القتال، والحقيقة هي عكس ما تطرحه المؤسسة الأمنية الرسمية”.
تساءل الكثير من المحللين في إسرائيل: ما قيمة تفوقنا التكنولوجي وأن نخصص 9 مليار دولار كموازنة للجيش في وقت لا يتمكن من حسم مواجهة ضد مقاومة غزة الفقيرة والمحاصرة؟
قالت المراسلة السياسية للقناة 11 الاسرائيلية جيلي كوهين أن “سكان “إسرائيل” ينتظرون ماذا سيقول الناطق باسم القسام وهم يصدقونه أكثر من الناطق باسم الجيش الاسرائيلي”!
الاحتلال يحاول تحسين الشروط
بحسب المصادر، ترفض تل أبيب شروط حماس المتعلقة بربط وقف إطلاق النهار والتهدئة الجديدة بالقدس أو أي اجراءات خاصة بالقدس، ونقلت صحيفة نيويورك تايمز عن مسؤول كبير في حمـاس قوله إن اسرائيل تماطل لتحسين الشروط ومحاولة اقتناص أي نجاح بقتل قيادات القسام كي يقول نتنياهو أنه كسب الحرب.
بسبب تغير شروط المقاومة وعدم قصرها – كالسابق-على غزة فقط (رفع الحصار ووقف الاغتيالات والعدوان)، لتصبح وقف الاعتداء على كل فلسطين (المحتلة عام 1948 والمحتلة عام 1967م)، تعيد حماس رسم المشهد السياسي والعسكري مع “إسرائيل” وهو ما يعرقل التوصل لاتفاق نهائي.
مع بدء ترتيبات وقف إطلاق النار الفعلية وتدخل أمريكا، والمرجح ان يبدأ الخميس 20 مايو، بدأ نتنياهو يطلق تصريحات تشير لقرب الهدنة مثل قوله في ختام جلسة لتقييم الأوضاع عقدها في مقر قيادة المنطقة الجنوبية العسكرية وزيارة إلى قاعدة حاتسريم الجوية: “حماس تكبدت ضربات لم تتوقعها، أعدنا حماس سنوات كثيرة إلى الوراء، سنواصل العملية العسكرية وفق الحاجة من أجل استعادة الهدوء للمواطنين الإسرائيليين”.
حديث نتنياهو عن مواصلة العدوان “وفق الحاجة” هو رسالة استسلام وقبول بوقف إطلاق النار ولكنه معلق علي شروط الطرفين.
الكيان تحت رحمة المقاومة!
تحاول حماس وحركات المقاومة الفلسطينية في غزة إجمالا، بعد ثلاثة مواجهة عسكرية مع إسرائيل منذ انسحابها من غزة في 2005م، وما تلاه من سيطرتها على غزة بعد فوزها في الانتخابات التشريعية 2006م، فرض معادلة سياسية وعسكرية جديدة تجعلها المتحدث الرسمي باسم الشعب الفلسطيني.
لخص المحلل الصهيوني اليكس فيشمان في صحيفة يديعوت احرونوت هذا بقوله: “تستطيع حماس الإشادة بإنجازها الرئيسي حيث نجحت في إطلاق أعداد هائلة من الصواريخ على إسرائيل على الرغم من الأعمال العسكرية، كما أعادت حماس تسمية نفسها بأنها المدافع عن المسجد الأقصى وبطل القضية الفلسطينية”.
يري الصهاينة أن حماس حققت النصر منذ الضربة الأولي حين وجهت صواريخها الي ابعد نقطة في القدس وهو ما فوجئت به تل ابيب لهذا بدأت التفاوض على التهدئة من هذا النصر أو المكسب الذي حققته.
تسجيل المقاومة إنجازات عسكرية لأول مرة بقصف للصواريخ استهدف بلدات إسرائيلية بعمق 250 كم، وتحقيقها تفوقاً بمفهوم الردع والخطاب العسكري للجبهة الداخلية “الإسرائيلية” واشعالها حرباً أهلية بين اليهود والفلسطينيين في العمق الصهيوني فضلاً عن مفاجات الحرب مثل سلاح الغواصات والطائرات المسيرة، فرض معادلة التفاوض الجديدة وهو سر تعقدها.
فسياق هذه المعركة مختلف عن الحروب الثلاث الأخيرة التي شنتها إسرائيل على غزة أعوام 2008 و2012 و2014، لأن المقاومة تلعب هذه المرة بكارت القدس لفرض معادلة ردع جديدة وربط القصة الفلسطينية ببعضها البعض، وتحطيم نظرية “فرق تسد” الصهيونية التي تقوم على مبدأ العزل الجغرافي والسياسي لفلسطينيي غزة عن الضفة عن القدس والداخل المحتل.
لأول مرة تتحد خمس جبهات ضد الاحتلال تشكل كل فلسطين هي: غزة والضفة والقدس والداخل المحتل وفلسطينيو الشتات على الحدود.
لهذا سعت حماس خلال معركة الحرب والتفاوض على هدنة جديدة لتثبيت المكاسب في ظل تراكم القوة لديها في غزة وظهور اسلحة وقدرات جديدة لديها جعلت الاحتلال و”دولة اسرائيل” محاصرة!
لأول مرة تفرض حماس حظر التجول في “إسرائيل” وتفرض حظر طيران على سماءها بقصف مطاراتها، ثم تفرض حظر على تصدير نفطها بضرب مصافي النفط في البحر المتوسط وايقاف عمل منصة حقل تمار انتصارات غير مسبوقة.
أوقفت شركة شيفرون للطاقة عملياتها في حقل تمار – الذي يمد مصر بالغاز الطبيعي – وذلك إثر تصاعد الأحداث واستهداف الحقل بطائرات حماس المسيرة، بحسب رويترز، وكما اشتعلت النيران في صهاريج خط عسقلان إيلات لنقل النفط وتوقف.
إعلان منع التجول على العاصمة السياسية للكيان الصهيوني “تل أبيب”، ومنع أو السماح للجمهور الصهيوني بالحركة بما يتوافق مع قرارات قيادة القسام، وأيضًا بما يتوافق مع الرشقات الصاروخية على المواقع والمدن الصهيونية، كان أمرا يشير بوضوح لمعالم الضربة القاضية الأولي والانتصار بصرف النظر عن محاولة الصهاينة جباية أي نصر بقتل الابرياء وهدم المباني.
كان عجيباً ومدهشاً أن يقرر أبو عبيدة والضيف مواعيد خروج الصهاينة من الملاجئ وإعلان إعطائهم أوقات (ساعتين) لرفض التجول والخروج من المخابئ، ثم معاودة القصف، ما شكل كل الحياة الاجتماعية والاقتصادية في دولة الاحتلال.
على مدار حكم حماس في غزة منذ 2007م وحتى اليوم، خاضت أكثر من 50 جولة قتال قصيرة و3 حروب مدمرة، واقتصر سقفها في التفاوض خلال هذه المواجهات على الحفاظ على مكتسباتها السياسية والاقتصادية في غزة، والمطالبة بتحسين الظروف المعيشية لسكانها، والمطالبة بممر مائي وتجاري لتنقل الأفراد والسلع للخروج من التبعية الإسرائيلية.
لكن حماس في هذه الجولة، تضمن سقف مطالبها – كما أعلنه قادتها-تسعي لفرض شروط تركز على الحفاظ على هوية القدس، ومنع أي تغيير في واقع المدينة.
كان ملفتا اعلان الاحتلال المفاجئ وقف أي زيارات للمستوطنين لساحة المسجد الأقصى لأجل غير مسمي ونقل أي احتفالات صهيونية لخارج الساحة وقصرها على منطقة حائط المبكي، ما يشير بوضوح لفرض المقاومة شروطها.
رفع حماس سقف التحدي، في ظل ثورة عارمة تساندها في الضفة والداخل الصهيوني هو مكسب كبير حتى ولوم يتحقق في اوراق الهدنة المعلنة، فقط تم فرضه فعليا ولا يحتاج للإثبات ورقيا.
يكفي حماس انها تتفاوض في هذه الجولة بنفس “المنتصر” و”الفائز” ومن حقق المكسب الاكبر الاستراتيجي لا المكاسب الصهيونية الهمجية بهدم منازل ومباني.
ما يؤكده الصهاينة في صحفهم هو أن حماس دخلت الحرب هدف محدد وليس عنترية وهو هدف استراتيجي كبير يفرض معادلة جديدة على المحتل تدفعه لعدم عرقلة خطط تنمية وبناء غزة من جهة، ومد مظلة المقاومة للفلسطينيين في القدس والضفة.
يرون أن حماس بهذا المنظور فازت في الجولة الرابعة وفرضت معادلة جديدة ولو كانت غير مكتوبة على الاحتلال الذي سيفكر لاحقاً قبل اتخاذ أي خطوات تهويديه في القدس أو ضد غزة، وأن تبعات هذه الجولة وما سيتلوها سي كون أكبر ربحية للمقاومة وقد تنهار سلطة رام الله، وتتفكك الدولة الصهيونية من داخلها فعليا وليس بالشعارات.