رغم حرص أمين عام “حزب الله” على التأكيد مراراً رفض الانجرار إلى حرب أهلية، فإن الأجواء في لبنان لا تطمئن أحداً، صحيح أنه رمى تهمة طلب الحرب الأهلية على من توّجَه بنفسه -عن قصد أو غير قصد- قائداً لمواجهته، إلا أن ممارسات الحزب إياه تدفع بهذا الاتجاه أيضاً، لأنه لو صح جدلاً أن مشروع “القوات اللبنانية” هو الحرب الأهلية، وأنها إستراتيجيتهم لشد العصب وكسب الشعبية، إلا أن جمهور الحزب لا يقصّر أبداً في تسهيل هذا “المشروع”؛ لدرجة لم تعد تحصى فيها عدد المرات التي دخل فيها الجمهور الذي يعرّف عن نفسه عادة بهتاف “شيعة شيعة” -بمناسبة ودون مناسبة- إلى أحياء لا تشبهه في اعتقاداته، وكسر وغادر.
كل الناس يعيشون هذا الواقع، حتى حليف الحزب جبران باسيل نبّه إلى خطورته قبل يومين فقط من إطلالة نصر الله الأخيرة: “اللي إجو على أحياء الشياح والطيّونة وعين الرمانة يهتفوا هتافات مستفزة، كانوا بيقبلوا إنّو أهالي الضحايا/أو حزبيّين ينزلوا على الضاحية ويهتفوا ضدّ أهلها؟! مش مقبول أبداً السباب ودخول الشوارع الفرعيّة والتكسير، هيدا مش تظاهر سلمي”.
لقد حاول نصر الله -مستخدماً كل وسائل الإقناع والاستدلال وصولاً إلى اتهامه “القوات” بدعم “داعش”!- طمأنة الشارع المسيحي أن “القوات” تريد أن تصنع “عدواً وهمياً” هو “حزب الله”، عبر جعلهم يشعرون دائماً بالخوف والقلق، لكن الواقع أن الذي استثمر في تخويف الشارع المسيحي من العدو الوهمي هو حليف الحزب ميشال عون، بعد أن صاغ استثماره هذا في إطار التسويق لحلف الأقليات، الذي يمثل اتفاق مار مخايل إحدى أهم محطاته، ولا سيما أن تطبيق الاتفاق انعكس استقواءً من “الرئيس القوي” و”التيار القوي” على مكون وطني آخر هو السُّنة، بدعوى أنهم أخذوا حقوق المسيحيين بالنص، وبما أن تعديل دستور الطائف متعذر، فالبديل يا مسيحيين هو الممارسة التي تعيد لكم حقوقكم.
الحزب شاهَدَ وسكت وساعد على هذا التوجه الإستراتيجي في مقايضة واضحة: أعطونا الغطاء المسيحي على مشروعنا الإقليمي، وخذوا دعمنا لمشروعكم الداخلي، على هذا الأساس استفاد التيار العوني في السنوات السابقة من “فائض القوة” لدى “حزب الله”، كما استفاد الحزب نفسه من قوته الإقليمية لتوسيع حضوره في الدولة.
الشق الثاني من كلام نصر الله كان حاداً على نحو مبرر في سياق استيعاب شارعه المكلوم والغاضب، وبهدف استيعابه والتعويض عن الأضرار التي لحقت الهيبة؛ ولا سيما في واقعتي خلدة والطيونة، لذلك تجد نصر الله يستعيد ما جرى في خلدة؛ ليؤكد أنه تابع شخصياً “التحقيق الذي انتهى، وهناك 18 موقوفاً ذاهبين إلى المحاكمة”، وهو يريد الأمر نفسه وبسرعة في واقعة عين الرمانة، فيما المدان محدد سلفاً؛ القوات اللبنانية وزعيمها جعجع.
في هذا السياق، أطلق نصر الله زخات من التحذيرات للقضاء العسكري “الذي يجب أن يتصرف خلال أيام ويحاسب، من أصغر عسكري لأكبر ضابط”.. و”نحن عيوننا مفتوحة”، تاركاً للأجهزة الأمنية أن تعتقل المتورطين.. “فنحن لا نترك دم إخواننا على الأرض، وكل العالم تفهم ما المقصود بهذا الكلام”، ومطالباً الدولة والقضاء العدلي أن يجد حلاً لقبع القاضي البيطار.. و”لا تقولوا لنا معكم حق وسنرى ماذا نفعل، الوقت انتهى”.
لكن ما ليس مفهوماً؛ في سياق رفع سقف المطالب؛ هذا التحدي المباشر لسمير جعجع، والاضطرار لخلع القفازات والعد.. ويبدو أن العبارة المفتاح في فهم هذا “الاضطرار”، ما رواه نصر الله شخصياً وتأكد من صحته، نقلاً عن لسان جعجع أنه قال لحلفاء محتملين له: إن “حزب الله بات ضعيفاً”، الأمر الذي استفز نصر الله إلى حد القول: “حزب الله؛ الهيكل العسكري الذي فيه؛ المدربين والمنظمين والمهيكلين والمسلحين وأصحاب التجربة.. أكتب عندك ـ يا سمير جعجع ـ يعد بـ 100 ألف مقاتل”، صحيح أن نصر الله طمأن أنهم “للدفاع عن لبنان”، لكنه بالوقت عينه استعملهم في الخطاب إياه لتخويف طرف داخلي، وهو استعمل جزءاً منهم في “اليوم المجيد” 7 أيار، وفي محطات أخرى يعرفها الجميع!
بطريقة غير موفقة أراد نصر الله القول للمسيحيين: القوات عدو فاتخذوها عدواً.. وإلا فقد جئتكم بجيش من “مائة ألف مقاتل لو أرادوا حمل الجبال لأزالوها”.. والواقع أن حديث “حزب الله” عن نفسه بهذه الطريقة يخيف ولا يطمئن -وربما هذا هو المقصود-ليس فقط المسيحيين بل الطوائف الأخرى، وهو يزيل آخر معالم الدولة، لأنه يحفز المكونات الطائفية الأخرى على عسكرة نفسها، بدعوى الدفاع عن لبنان، وتالياً؛ يصبح لكل طائفة جيشها، ثم تأكل الجيوش بعضها.. ويفنى لبنان.