ما بين اتهامات مستمرة للحكومة المصرية ببيع أصول مصر لمواجهة الأزمات الاقتصادية المتصاعدة، ونفي رسمي متواصل لا ينقطع يؤكد أن أصول مصر ليست للبيع، وأن كل ما يحدث هو مجرد “استثمار” فقط من أجل التطوير، يقف المصريون في حيرة من أمرهم، يبحثون عن الحقيقة.
ويرى مراقبون أن لغة الحكومة لغة سياسية تتناقض مع حقائق اقتصادية في بعض الأحيان، فالبيع تسميه “الاستثمار”، والاستحواذ تطلق عليه “الشراكة”.
ودعا خبيران في الحوكمة والاقتصاد، تحدثا لـ”المجتمع”، إلى إعلاء الشفافية في المسارات القادمة وعدم المساس بمشروعات الأمن القومي بمصر في أي عملية سواء بالبيع أو بالاستثمار، مع إحداث تغيير حقيقي مبني على نظم الحوكمة الرشيدة من أجل تحقيق عائد اقتصادي مجدٍ لاقتصاد البلاد ودخل المواطن وقوة العملة الوطنية.
الوسيمي: لا بد من حوكمة رشيدة وشفافية وحرية تداول للمعلومات
د. سمير الوسيمي
غياب الشفافية والحوكمة
من جانبه، يرى الأكاديمي عضو المعهد الأوروبي لحوكمة المؤسسات د. سمير الوسيمي أن غياب الشفافية يجعل لكل التكهنات مساراً لتصبح حقيقة، مؤكداً أن ما يحدث هو عملية “بيع”، ولكن السلطات تطلق عليها “استثماراً”.
ويضيف الوسيمي، في تصريحات لـ”المجتمع”، أن هناك حالة سيولة من جانب، وضبابية من جانب آخر تهيمن على الأوضاع الاقتصادية والاستثمارية في مصر حالياً، وهذا يتطلب التوجه إلى إعمال نظم الحوكمة بشكل عملي تطبيقي نابع عن إيمان وإرادة لدى مؤسسات الدولة بدءاً من السلطة السياسية ومروراً بمنظومة الإدارة العامة، وصولاً إلى القطاع الخاص والقطاع الأهلي والمجتمع المدني وكذلك المواطن العادي.
ويؤكد أن مصر تحتاج حوكمة رشيدة تنطلق من مبادئ واضحة على رأسها الشفافية التي تتميز بالإفصاح وحرية تداول المعلومات، وذلك سيؤثر إيجاباً في منظومة الثقة بين المواطن والمؤسسات المختلفة، وكذلك جميع مبادئ ومفاهيم الحوكمة ومنها سيادة القانون والنزاهة ومحاربة الفساد والرؤية الإستراتيجية والمشاركة والتوافق والاستجابة والعدل والفعالية والكفاءة، وبناء مسارات تطبيق فعلية على جميع المستويات دون تأخير أو تباطؤ أو تراخٍ؛ مما قد يساهم بقوة في تحسين البيئة والمناخ الذين من شأنهما المساهمة في بناء ثقافة مجتمعية ومؤسسية واسعة تدعم تحولاً حقيقياً في مصر، وغير ذلك سيدفع الأمور إلى انحدار غير محمود العواقب.
الطاهر: القرارات الحكومية تخضع للممول أو للداعم وشروطهما
ويوضح الوسيمي أن حالة الغموض ثم الإعلان عن صفقات غير مفهومة تارة ببيع شركات ومؤسسات يعتبرها الشعب وطنية وتدخُل في الأمن القومي، وتارة أخرى بإطلاق مشروعات ليست ذات جدوى على الأقل آنية، وغير ذلك من السياسات العامة والقرارات من شأنها إحداث بلبلة بين الجماهير، وتؤثر على صورة البلد سلباً في الداخل والخارج، ومن ثم تتأثر منظومة ومناخ الاستثمار.
ويشدد على أن مصر تحتاج إلى وقفة جادة مع الحوكمة تتجاوز أي مصالح شخصية أو توترات أو خلافات وغيرها، وتنطلق إلى مراحل بناء وتنمية حقيقية تنظر بعمق في المشكلات الحالية وعلى رأسها قضايا الديون الداخلية والخارجية، وقضية إعادة دراسة موارد الدولة وبحث سبل تنميتها بالصورة المثلى وانتهاج النهج العلمي في بناء المؤسسات والمشروعات والحلول.
إبراهيم الطاهر
شروط الممولين
وعلى الصعيد الاقتصادي، يرى الخبير الاقتصادي الكاتب الصحفي المتخصص إبراهيم الطاهر، في حديث لـ”المجتمع”، أن قرارات الحكومة المصرية في السنوات الأخيرة تخضع للممول أو للداعم وشروطهم سواء كانوا ممولين إقليميين يقدمون أموالاً ساخنة في صورة ديون، أو كانوا مؤسسات مالية دولية مثل البنك وصندوق النقد الدوليين تقدم قروضاً مشروطة، ومع دخول الحكومة المصرية في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي فهذا يجعلنا نركز على الشروط التي غالباً ما تتحدث عنها الحكومة أمام الجماهير بغير مسمياتها في بعض الأحيان خشية استفزاز هذه الجماهير.
ويشير الطاهر إلى قروض صندوق النقد الدولي لمصر أو لغيرها معروف عنها أنها ترتبط دائماً بالأزمات الداخلية، حيث تقوم على خفض الدعم عن محدودي الدخل وبالتالي زيادة الأسعار وتراجع القوة الشرائية للمواطن المصري.
الحكومة تؤكد: لا نية لبيع الأصول وما نقوم به ضمن خطة “استثمار”
ويوضح الكاتب المتخصص في الشأن الاقتصادي أن بيع الأصول مرتبط بشروط المرحلة الثانية من تلقي قرض صندوق النقد الدولي، التي تقوم على زيادة إشراك القطاع الخاص بصورة أوسع في مؤسسات الدولة التي تبلغ حالياً ما يقرب من 25% فقط، وهو المعنى المساوي للبيع ولكن بعبارة أخرى، خاصة بعدما انتهت الحكومة من المرحلة الأولى منها ببرنامج الإصلاح الاقتصادي الذي نجح وفق ما ترى هي على عكس الواقع الاقتصادي الصعب وقيمة الجنيه المصري المنخفضة.
ويؤكد الخبير الاقتصادي إبراهيم الطاهر أنه لا يشغل باله الآن بمن يدير هذه المشروعات سواء إدارة حكومية أو خاصة، ولكن ما يهمه كمواطن مصري وخبير اقتصادي هو القيمة المضافة للاقتصاد المصري بصفة عامة، والعائد التنموي المنتظر للمواطن سواء على الدخل أو مستوى المعيشة أو القوة الشرائية للجنيه، وهو ما يجب أن يلمسه الجميع بعيداً عن البيانات الدعائية أو التزييف للواقع.
ولكن يحذر الطاهر من امتداد أي يد لمشروعات الأمن القومي المصري المرتكزة على المشروعات الحيوية للدولة وللمواطن سواء عن طريق “البيع” أو “الاستثمار” بلغة الحكومة، مؤكداً أهمية عناية الدولة بتلك المشروعات بعيداً عن أفكار صندوق النقد الدولي أو أمثاله.
النفي سيد الموقف
حكومياً، أعلنت وزارة النقل، في بيان رسمي في اليومين الماضيين، أن مرافق وزارة النقل ليست للبيع، وأنها فقط ترحب بشراكة القطاع الخاص المصري والأجنبي في إدارة وتشغيل مرافق وزارة النقل وخاصة الموانئ ووسائل المواصلات الحديثة.
وأكد وزير النقل المصري كامل الوزير، في مايو الماضي، أنه لا يمكن بيع موانئ مصر، كما لا يمكن التفريط فيها، وذلك رداً على اتهامات للمعارضة حول توجه الحكومة لبيع 7 موانئ للأجانب.
وفي نفس الاتجاه، أكد رئيس الهيئة الوطنية للصحافة، عبدالصادق الشوربجي، في الأيام الماضية، أن المؤسسات الصحفية القومية ليست للبيع ولن يتم إلغاء أي إصدار.
ولكن في يونيو الماضي، قررت الهيئة ذاتها إلغاء مجلتي “الكواكب” و”طبيبك الخاص” وضمهما لمجلة “حواء”، وهو القرار الذي سبقه في يوليو من العام الماضي قرار من ذات الهيئة بوقف طباعة 3 صحف ورقية يومية مسائية، على أن تتحول الصحف الثلاث إلى إصدارات إلكترونية، وهي “الأهرام المسائي”، و”الأخبار المسائي”، و”المساء”.
معارضون: “استحواذ” على الأصول وليس “استثماراً” ينشئها من العدم
وفي مايو الماضي، نفت الهيئة الوطنية للصحافة اتهامات معارضين لها بنقل ملكية أصول ثلاث من أكبر المؤسسات الصحفية القومية؛ وهي: “الأهرام”، و”دار التحرير للطبع والنشر”، و”روز اليوسف”، إلى إحدى الجهات السيادية، في إطار مخطط الاستحواذ على أصول كل المؤسسات الصحفية والإعلامية المملوكة للدولة تدريجياً للاستفادة من أماكنها المميزة، مؤكدة أنها تقوم فقط باستثمار عدد من الأصول غير المستغلة لتلك المؤسسات.
بيع للأصول
وعلى الجانب المقابل، يقف حزب الكرامة، الذي يتصدر مشهد المعارضة من الداخل في السنوات الأخيرة، الذي يعتبر ما يحدث في مصر في الفترات الأخيرة بيعاً لأصول الدولة من أجل سداد الديون.
واتهم الحزب، في بيان رسمي، في أواخر يونيو الماضي، الحكومة المصرية بامتلاك خطة لبيع أصول الدولة بغرض توفير سيولة نقدية لدفع أقساط القروض المستحقة وفوائدها، مؤكداً رفضه لمسودة وثيقة سياسة ملكية الدولة الصادرة عن مجلس الوزراء، التي تهدف لبيع أصول مملوكة للدولة في قطاعات مختلفة وحساسة، وصلت إلى حد طرح المستشفيات والمدارس والمرافق العامة للدولة والموانئ للبيع تحت مسميات براقة كتشجيع الاستثمار وتعزيز دور القطاع الخاص، وفق ما يرى.
ووصف الحزب ما يحدث بأنه عمليات استحواذ قائلاً: نؤكد أن هذه العمليات هي في حقيقتها “استحواذ” رؤوس الأموال على أصول قائمة بالفعل، وليست استثماراً ينشئ تلك الأصول من العدم، ويخلق قدرات إضافية للاقتصاد، ويرفع بدوره معدلات التشغيل، ويعزز التنافسية، ويسهم في الكفاية الإنتاجية.