في مجال التنظير الرافض للتصور الإسلامي، نجد مفكراً علمانياً تونسياً، نذر نفسه للحديث عن الحداثة والإسلام، وأصدر عدداً غير قليل من الكتب والدراسات يدعي فيها أنه يسعى لتحديث الإسلام، ويحل مشكلة التخلف التي يعيشها المسلمون.
إنه يثير الكثير من الإشكالات والتساؤلات عما يسميه موقع “النص الديني” في تبرير العنف الإرهابي للحركات الإسلامية، مقابل نقاش من مفكّرين إسلاميين يسعون إلى التمييز في الإسلام بين مضمون الرسالة التي أتى بها لهداية البشر وإرشادهم إلى عبادة الله، وهي وجهة تهدف إلى تمييز الروحي والإنساني والأخلاقي في الإسلام، عن الأحكام والاجتهادات التي رافقت الدعوة المحمدية، وكان عليها أن تجيب عن جملة مسائل تتصل بالمعاش (كذا!) اليومي وبالقواعد الواجب اتخاذها، وهي تسعى للتصالح بين الاثنين (الحداثة والإسلام).
المصالحة مع الحداثة
صاحب هذا الكلام الذي يرتدي ثوباً جامعياً هو د. عبدالمجيد الشرفي، ولد في 23 يناير 1942 بصفاقس، وهو أكاديمي تونسي متخصص في الفكر والحضارة الإسلامية، وتقول عنه موسوعة “ويكيبيديا”: إنه يبحث من خلال أعماله ودراسته على خلق المصالحة بين المسلم المعاصر والحداثة، كما يدافع من خلال كتاباته عن ضرورة خلق حوار جدي بين الحضارات والأديان.
وإذا نظرنا في بعض كتبه سنجد أن الأمر لا يحتاج إلى كثير من العناء، لفهم انحيازه إلى ما يسميه الحداثة، لأنه يحمّل الإسلام جريرة العنف والإرهاب، أو يشكك على الأقل في إنسانية الإسلام.
إخضاع الاجتهاد
فهو مثلاً يلخص كتابه “الإسلام بين الرسالة والتاريخ” (دار الطليعة، بيروت، 2001) بالقول: يستمرّ الإسلام نصّاً دينياً وأحكاماً فقهية وممارسة ملتبسة بين تبرير العنف ورفضه، موضع جدال ومحور دراسات وأبحاث لدى اجتهادات ينطبق عليها محدودية الزمان الذي نزلت به والمكان الذي صدرت فيه، مما يعني تجاوز الزمن للكثير منها، ووجوب إخضاع كل اجتهاد إلى مقتضيات الزمن الحاضر.
وإذا كان الشرفي يوقن أن الإسلام يبرر العنف، ويريد في الوقت نفسه أن يخضع كل اجتهاد لمقتضيات العصر، فقد نسي أن العلوم الإسلامية تعرف علماً مهماً وأساسياً اسمه “علم الأصول”، ويقوم عليه علماء متخصصون اسمهم الأصوليون، ومهمتهم البحث في الظواهر الإنسانية الجديدة التي لم تكن قائمة في عصر النبوة، ويقيسونها على غيرها من الأمور السابقة، ولهم في ذلك منهج رائع وسابق لغيرهم بمراعاة مصالح الناس.
فصل الدين عن الدولة
وفي كتابه “مرجعيات الإسلام السياسي” (دار التنوير، بيروت، 2014)، يرى الشرفي أن الفكر الإسلامي عموماً لا يزال يواجه الصعوبات الكبيرة في التأقلم مع القيم والأوضاع الجديدة، في حين استطاع الفكر الديني في مجتمعات أخرى التغلّب على مثل تلك الصعوبات فانتهى إلى قناعة (كذا!) تامة بأهمية فصل الدين عن الدولة! هذا هو مربط الفرس، تنحية الإسلام عن الحياة!
ويلاحظ أن الرجل يقع في فخ المصطلح القاصر أو المصطلح المراوغ، فيفصل بين ما يسمى “الإسلام السياسي” والدين والدولة والمجتمع والعقيدة، وأظنه يعلم أنه لا يوجد غير إسلام واحد شامل (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162} لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام)؛ لذا فمصطلح الإسلام السياسي، أو الإسلام الأصولي، أو الإسلام الراديكالي، أو الإسلام الصوفي.. هي مصطلحات غير دقيقة، ولا تعبر عن حقيقة علمية، وينبغي عدم الاستسلام لها.
الاستجابة للحداثة
ويعتقد الشرفي في كتابه “تحديث الفكر الإسلامي”، (دار المدار الإسلامي، بيروت، 2009م) أنّ القضية المطروحة بحدّة على الفكر الإسلامي في نظره هي مدى استجابته لمقتضيات الحداثة بكل تجلّياتها المادية والمعنوية، العلمية والتقنيّة كما الفكرية والفلسفية، علماً بأنّ هذه الاستجابة ضرورة ملحّة وليست ترفاً ذهنيّاً.
ثم يضيف بأنه لا بد من التأكيد على مشروعية تحديث الفكر الإسلامي؛ “ويقيننا أنّ هذا التحديث مسؤولية ملقاة على عاتق المفكّرين المسلمين على اختلاف مشاربهم، وأنه لن ينجح إلا بوعيهم بأنّه عملية لا تحتمل الانتظار، وتتطلب تضافر الجهود وتقارع الآراء في كنف حرية التعبير، بعيداً عن التراشق بالتهم وعن الذهنية الوثوقية الإقصائية”.
وكلام الشرفي يفرض سؤالاً مشروعاً، وهو: لماذا لا تستجيب الحداثة للإسلام؟
علاقة ضعيفة
وإذا كان الباحثون المتيمون بالثقافة الوثنية الغربية يلحون على فكرة الحداثة لتغيير الإسلام، أو ما يورّون عنه بتغيير الخطاب الديني الإسلامي، فإن بعض العمائم الرسمية تلح بصورة ما على شيطنة المتدينين، واتهامهم بالتطرف، مع أن المجتمع في عمومه صارت علاقته بالتدين ضعيفة واهية، بعد إلغاء تعليم الدين عملياً في التعليم الأساسي، وإهمال مكاتب تحفيظ القرآن، وتعرّض الإسلام للقصف اليومي على مدار الساعة من خلال الدراما والسينما والإعلام، وأجهزة الثقافة، مع ترسيخ النموذج الغربي الوثني تفكيراً وسلوكاً في سياق لا يخدم الوطن ولا الأمة ولا الإنسانية، لقد صار التطرف المقصود أمراً اجتماعياً هامشياً، أو بالونة فارغة لا تأثير لها، ويمكن أن تزول بتعليم الدين أي الإسلام تعليماً صحيحاً منذ الطفولة حتى انتهاء المرحلة الجامعية.
ظواهر أخطر
إن اهتمام العمائم الرسمية بالحديث عن التطرف، دون أن يتناولوا تطرف ظواهر أخرى في المجتمع أشد خطورة من التطرف الديني، أو العنف الذي ينسب إلى الدين لهو قصور واضح، وخطأ عظيم، إن البلطجة في مجتمعاتنا مثلاً بلغت حداً مخيفاً يتجاوز أي تطرف ديني، فهي تضم أعداداً غفيرة لا تقتصر على المدن الكبيرة وأحيائها الشعبية، ولكنها تدحرجت إلى جميع أنحاء البلاد، حتى القرى التي كان يضرب بها المثل في الأمان والهدوء عرفت البلطجة والعنف الإجرامي، وقد ازدادت ظاهرة البلطجة في المجتمع مع تفشي الإدمان بأنواعه المختلفة، وشيوع استخدام “التوك توك” في كل مكان على أرض الوطن، وظاهرة البلطجة على هذا النحو تهز استقرار البلاد، وتقوض الأمن، وما أكثر الحوادث اليومية التي تشمل القتل والسرقات والمشاجرات والإصابات، وجرائم الخطف والاغتصاب، وهي جرائم لم يعرفها المجتمع بهذه الكثافة إلا في العقود الأخيرة، ولكن العمائم الرسمية و”الميديا” لا توليها اهتماماً يذكر أو يقارن باهتمامها بالتطرف والإرهاب المنسوب إلى الإسلام، وقد تم حصاره واستئصاله إلى حد كبير!
المصطلح المراوغ
ومع ذلك، فهناك من يستخدم التطرف بمعنى الإرهاب، ومن يستخدم الإرهاب بمعنى الإسلام، أو الإسلام بمعنى الإرهاب،
الشرفي لم يقل لنا ماذا يقصد تحديداً بالتحديث؟ وما الغاية التي يطمح إليها من التحديث؟
لدينا مشكل كبير هو استخدام المصطلح، وخاصة استخدام المصطلح المراوغ الذي يمكن تفسيره وفق هوى مستخدمه، وليس وفقاً لمن أطلقوه!
يمثل المصطلح خطورة كبيرة في نقل المعاني والمفاهيم، ولذا يقع كثير من الباحثين في التضليل، والنتائج الخاطئة، فالأصولية في الغرب مثلاً تعني ببساطة الجذور البعيدة والوقوف عندها ابتعاداً عن العصر، وتطور الزمان، كما تفعل بعض الجماعات المسيحية في أمريكا (طائفة المورمون على سبيل المثال)، حين يرفضون استخدام الكهرباء، ويؤثرون استخدام الحمير والحيوانات في تنقلاتهم، ويرتدون ملابس تشير إلى زمن المسيح عليه السلام، ولكن الأصولية الإسلامية، كما سبقت الإشارة، علم مهم في دراسة التشريعات الإسلامية، وإلى جانب ذلك فهي دعم للتطور والانتقال، والحكم على مستجدات الحياة ومدى مطابقتها للتشريع، وكيفية الإفادة منها للمجتمع والبشر.
الأصولية الإسلامية بالمفهوم الإسلامي مفخرة للمسلمين، أما الأصولية بالمعنى الغربي، وتحكيمها في الواقع الإسلامي، فأمر مناقض للتطور والبحث السليم، بل خداع مرذول، وتشويه متعمد للدين الإسلامي!