تسعى الدول القوية عادة إلى فرض ثقافتها وقيمها على الدول الضعيفة، ويتزامن هذا الفرض مع عمليات الاحتلال ونهب الثروات وتسويق البضائع التي تنتجها القوى الكبرى، وقد عرفت أمتنا الإسلامية شيئاً من هذا في فترة الاحتلال العسكري، من خلال التبشير والاستشراق، وتكوين النخب المحلية الموالية عبر التعليم الممول من هذه الجهات، أو من خلال البعثات التي تطلب العلم في بلاد الاحتلال، ثم تقليد الضعيف للقوي وفقاً لمقولة ابن خلدون الشهيرة حول الدول الضعيفة المستباحة التي تقلد الدول القوية الغالبة!
وفي العصر الحديث، كان التقليد وتقبل ثقافة الأقوياء مسألة قائمة، سواء كان التقليد مفيداً أو ضاراً، صار المسلمون يقلدون الأقوياء في كل شيء تقريباً عدا العمل المنتج والانضباط الإداري وبناء القوة، وأضحت الموضة، وطريقة الطعام، ومناهج التعليم، والفنون المختلفة، والعادات والتقاليد الاجتماعية (كثير منها)، المظهريات والشكليات غير الملائمة، تحكم معظم مجتمعاتنا، وأضحت تعاليم الشريعة والمفاهيم الإسلامية تمثل نشازاً وسط واقع غريب وعجيب، مرجعيته هناك عند الأقوياء في الغرب، ولذا ما إن يتحرك المسلمون أو بعضهم للتعبير عن ثقافتهم أو جانب منها حتى تقوم قيامة الغرب ووكلائه في العالم الإسلام تنتقد وترفض وتحرض، ولا تخفى نظرة الغرب والنخب الموالية له إلى موضوعات مثل الحجاب والربا والاختلاط والميراث والزواج والطلاق والتعدد والذبائح الحلال وتناول الكحوليات والسلوكيات الملتزمة والعلاقات الشاذة.. إلخ.
خطوة مخيفة للغاية
وقد رأينا ما جرى من انتقاد عنيف لحكومة أوغندا التي أصدرت قانوناً يحرم الشذوذ الجنسي، في 29 مايو 2023م، فقد وصفه الإعلام الغربي والسياسيون بالقانون «الأكثر قسوة»، وأبرزوا ما قاله بعض الشواذ: «سوف نموت»، ووسموا الخطوة الأوغندية بأنها مخيفة للغاية، كما قال موقع «سي إن إن» يوم صدور القانون: ويواجه الرئيس الأوغندي انتقادات لاذعة من الحكومات الغربية بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية بسبب تبني القرار، ولكن رئيسة البرلمان الأوغندي وصفت القرار بأنه لمصلحة بلادها، وجاء استجابة لمطالب شعبها.
محاولات فرض الثقافة الأجنبية على الشعوب لا تتوقف، وتأخذ أشكالاً متنوعة ليس هنا مجال تناولها، ولكن أبرزها هو «فوبيا» الإسلام أو التخويف منه.
وقد احتفل العالم، يوم الأربعاء 15 مارس 2023م، باليوم العالمي لمكافحة كراهية الإسلام (الإسلاموفوبيا)، بهدف مواجهة العنف والأفكار السلبية التي يواجهها المسلمون حول العالم، بسبب مواقف الحكومات المعادية للإسلام التي تفرض على شعوبها الخوف المبالغ فيه، والشعور بأن الإسلام يمثل تهديداً خطيراً، وهو ما يترتب عليه كراهية المسلمين، والنفور منهم، والابتعاد عنهم، وإيذاؤهم في بعض المجالات، والتمييز العنصري ضدهم.
وكانت الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة قد أصدرت، العام الماضي، قراراً أعلنت فيه أن يوم 15 مارس من كل عام هو اليوم العالمي لمكافحة رهاب الإسلام، وأعربت عن استيائها البالغ إزاء جميع أعمال العنف الموجهة ضد الأشخاص بسبب دينهم أو معتقدهم، وما يوجه من تلك الأعمال ضد أماكن عبادتهم، وكان الاحتفال هذا العام ملموساً في بعض المؤسسات والإعلام الدولي، وأبرزته مواقف بعض الشخصيات العالمية، ودعم بعض الدول الإسلامية.
تنوع الإنسانية البديع
فقد دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، بمناسبة اليوم الدولي لمكافحة «الإسلاموفوبيا»، إلى القضاء على سم الكراهية، قائلاً: المسلمون الذين يُعدون بنحو ملياري نسمة في العالم، يمثلون الإنسانية بكل تنوعها البديع، لكنهم كثيراً ما يواجهون التعصب والتحيز ضدهم بسبب معتقدهم الديني، وفوق ذلك التمييز الهيكلي والمؤسسي والوصم الشامل للمجتمعات المسلمة، ويعاني المسلمون من التهجمات الشخصية وخطاب الكراهية، ويُلامون على كل شيء.
وأضاف غوتيريش أن المسلمات يواجهن التمييز من ثلاثة أوجه، بسبب جنسهن وعرقهن وعقيدتهن، وذكر أن الكراهية المتزايدة التي يواجهها المسلمون ليست تطوراً معزولاً، بل هي جزء من انبعاث القوميات العرقية، وأيديولوجيات النازيين الجدد المعتقدين بتفوق العرق الأبيض، ومن العنف الذي يستهدف الفئات السكانية الضعيفة، بما في ذلك المسلمون واليهود وبعض الأقليات المسيحية وآخرون.
وأكد ضرورة الإقرار بأن التنوع مصدر ثراء، وطالب بتكثيف الاستثمارات السياسية والثقافية والاقتصادية الهادفة إلى تحقيق التماسك الاجتماعي، كما شدد على ضرورة مجابهة التعصب من خلال العمل على التصدي للكراهية التي تنتشر في الإنترنت انتشار النار في الهشيم.
وذكر أن رسالة الإسلام الحاملة لمعاني السلام والرحمة والإحسان ظلت منذ أكثر من ألف عام تُلهم الناس في جميع أنحاء العالم، وجميع الأديان والثقافات العظيمة بقيم التسامح والاحترام والوفاق، ودعا إلى السعي، في هذا اليوم وفي كل يوم، إلى إعمال القيم المشتركة والتصدي لقوى التفرقة، من خلال تأكيد التمسك بالإنسانية المشتركة، https://www.un.org/ar/observances/anti-islamophobia-day/messages
وأمام هذا الكلام الواضح الصريح من أمين الأمم المتحدة، ومحاولة بعض الدول الإسلامية مقاومة كراهية الإسلام والخوف منه بدعم بعض المشروعات الإعلامية لشرح مفاهيم الدين الحنيف (مثلاً: دعمت باكستان وماليزيا وتركيا مشروعاً تلفزيونياً لمقاومة كراهية الإسلام)، يتطوع بعض المسلمين بالإعلان أن «الإسلاموفوبيا» وهم، وأنها اختراع لا وجود له!
هل «الإسلاموفوبيا» وهم؟
من المؤكد أن المسلمين لا يبحثون عن عدو، ولا يفكرون في الاستزادة من عدد الأعداء، إنهم فقط يريدون العيش في أمان، والتعبير عن رؤيتهم الإسلامية للعالم أو الكون، والعيش في سكينة وسلام، والتفاعل مع معطيات المدنية الحديثة المفيدة، ولكن بعض الباحثين من المسلمين يرون أن إلقاء اللوم على أبناء جلدتهم في كثير من القضايا، ومخالفة الواقع التاريخي والراهن وحقائقه، إنجاز علمي وسلوك فكري وضرورة حضارية.. لماذا؟ لا أدري! إنهم لا يكتفون بذلك، بل يريدون تنحية ما يسمى الرؤى الأيديولوجية التاريخية، والأفكار السياسية سابقة التجهيز(؟)، والسيناريوهات المذهبية المقولبة، لصالح نتائج استطلاعات الرأي العام، ويرون أن الدراسات المسحية/الميدانية التي يتم تطبيقها في عدد كبير من المجتمعات الغربية لا تشير إلى كراهية الإسلام، ولا تدعمها! ويتناسى هؤلاء أن الدراسات المسحية التي تطبق على عامة المواطنين هنا وهناك، لا تصلح منهجاً علمياً أمام سياسات صريحة لحكومات تعلن عن مواقفها المعادية للإسلام، والملاحقة لأتباعه بصورة وأخرى.
أجل، فالأمة الإسلامية مهيضة الجناح، مرزأة في كثير من الأحوال، مهزومة من الداخل أكثر من الخارج، مشكلاتها أكثر من أن تحصى بسبب تغييب الإسلام، أو تحويله إلى مجرد شكل مفرغ من محتواه، ولكن هل يكفي لإثبات وجهة النظر المتعسفة أن يشبّهنا بعض الباحثين بأرسطو حين اعتقد كمال الرجل مقابل نقص المرأة؛ وأن الرجل «خُلِق لممارسة الفضائل الإنسانية»، والمرأة «مجرد مخلوق مشوه أنتجته الطبيعة بغرض الإنجاب»، وأنَّ عدد أسنانها بوصفها (الكائن الناقص) أقل من عدد أسنان الرجل (الكائن الكامل)؟! لقد ظلَّ أتباع أرسطو -كما يقول الباحث- يتناقلون هذه المعلومة ويعتقدون في صحتها حتى وقت قريب؛ إلى أن قال برتراند راسل (1872 – 1970م): إن أرسطو «لو فتح فم إحدى زوجتيه وعدَّ أسنانها لعلم زيف مقولته وخطأ نظريته»، ويرتب الباحث أيمن منصور ندا على هذا التشبيه ومقتضياته وذيوله أن «الإسلاموفوبيا» وهم، وأنها لم تختبر علمياً، وصارت من المسلمات بسبب شهرة القائلين بها أو قوة نفوذهم.
ويستعين بإحصاءات ميدانية تشير إلى أن الاتجاهات الإيجابية نحو الإسلام في المجتمعات الغربية في تصاعد مستمر، فقد كانت مثلاً في فبراير 1993 نحو 14% فقط، وصارت 38% في فبراير 2002م، ثم 40% في أغسطس 2010م، ثم 42% في أغسطس 2021م.
وكانت الإجابة عن سؤال: هل تقول: إن الإسلام يشجع العنف ضد غير المسلمين أم أنه دين سلمي؟ تشير إلى أن نسبة من يعتقدون في كون الإسلام ديناً سلمياً تتراوح بين 51 و60% من الأمريكيين، في مقابل نسبة تتراوح بين 26 و36% يعتقدون في كون الإسلام يشجع على العنف (بقية النسبة لا أدري/ لا رأى لي) (الأهرام، 21 من رمضان 1444هــ/ 12 أبريل 2023م).
ويضيف الباحث فيما يشبه السخرية من المسلمين أن جامعة برينستون الأمريكية أجرت استطلاعين (يوليو 2002، ومايو 2004م)، سألت فيهما المبحوثين الأمريكيين: «هل تعتقد أن المسلمين بإمكانهم دخول الجنة؟ وأشارت النتائج إلى أنَّ 75% يعتقدون في ذلك، وهي نسبة من الصعب أن نجدها لو سألنا المسلمين أنفسهم؛ إذ سنجد بضعاً وسبعين فرقة في النار، وفرقة واحدة منها ناجية!
المجال الطبيعي
كما سبقت الإشارة، فإن الدراسة المسحية بين المواطنين ليست المجال الطبيعي لمعرفة ما إذا كانت كراهية الإسلام حقيقة أو وهماً، لأن الكراهية مواقف حكومات وهيئات ومؤسسات وأفراد، ثم إن السخرية في دخول الجنة تقتضي أن يكون الباحث واعياً بمفاهيم الإسلام الصحيحة، وفي مقدمتها أن دخول الجنة فضل من الله تعالى، وليس بالأماني والرغبات والصكوك.
إن الكراهية لها جذور تاريخية تنبت أغصاناً سوداء حتى اليوم ولا يمكن تجاهلها، ولها منظمات وجمعيات وقادة في دول الغرب والشرق، وترى أن المسلمين أشرار وكفرة، وأن السلام يتم حين يُقضى عليهم، ومقولة جورج بوش الابن مشهورة حول ظلامية الإسلام التي رددتها نخب عربية وأسست عليها موقفها العدواني، وفي العواصم الغربية منظمات لمن يسمون دعاة القتل الإلهي (للمسلمين طبعاً)، وقد أفاض محمد السماك حولهم في كتابه «الدين في القرار الأمريكي» (دار النفائس، بيروت، 1424هـ/ 2003م)، بيد أن هناك غربيين يملكون ضميراً حياً يتعاطفون مع المسلمين وغيرهم من المظلومين، ولكنهم للأسف قلة قليلة، لا تملك من الأمر شيئاً.
وقد سمع الناس في أرجاء الأرض ورأوا على مدى السنوات القليلة الماضية تجليات قبيحة لكراهية الإسلام في دول مثل فرنسا والدنمارك والسويد وهولندا وإسبانيا ونيوزلندا وغيرها، شملت قتلاً للساجدين وتصريحات مسيئة من مسؤولين بارزين، ونواب تشريعيين ومؤسسات صحفية وأفراد يمزقون المصاحف أو يحرقونها، واعتداء على المحجبات وحرمانهن من العمل في الوظائف الحكومية، أو الخدمات الصحية والاجتماعية، وما زال الناس يذكرون موقف الغرب من أنشطة كأس العالم في قطر 2022م، وإصرار بعض الفرق والمسؤولين الأوروبيين على ارتداء قمصان أو إشارات الشواذ، وقبل ذلك تصريحات الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون، في 23 أكتوبر 2020م، حيث قال في تأبين المعلم صمويل باتي بجامعة السوربون: «صمويل باتي قُتل لأن الإسلاميين يريدون الاستحواذ على مستقبلنا ويعرفون أنهم لن يحصلوا على مرادهم بوجود أبطال مطمئني النفس مثله”».
وأضاف: «لن نتخلى عن الرسومات والكاريكاتيرات وإن تقهقر بعضهم»، وكانت هذه التصريحات سبباً لانتشار دعوات مقاطعة المنتجات الفرنسية في العالم الإسلامي.
الأزهر يستنكر
إن كراهية الإسلام هي التي تجعل مسؤولين فرنسيين يجاهرون بالإساءة إلى الإسلام في وقاحة غير مسبوقة، مما جعل الأزهر الشريف يصدر بياناً (الأهرام 25 مايو 2023)، يعرب فيه عن استنكاره للتصريحات غير المسؤولة التي أدلى بها مسؤول فرنسي، ويربط فيها الإسلام السُّني بالإرهاب، ويزعم أنه يشكل التهديد الأكبر لبلاده ولأوروبا، وأكد الأزهر أن تكرار صدور تلك التصريحات من مسؤولين غربيين رسميين يعبر عن جهل عريض بالإسلام وتنكر لحضارته وتاريخه القديم والمعاصر، واستفزاز غير مبرر ومتعمد لمشاعر المسلمين حول العالم، كما حذر الأزهر من أن هذه التصريحات هي نفسها جزء من الإرهاب الغربي الذي يمارسه بعض المسؤولين الغربيين ضد حضارة الشرق وحضارة الإسلام، التي أيقظت أوروبا من عصر الجهالة والظلام والوحشية.
وقد أفادت صحيفة «ميديا بارت» الفرنسية، في 21 مايو 2023م، أنّ استخبارات فرنسا طلبت من عشرات المدارس في «مونبلييه» و«تولوز» الإبلاغ عن عدد الغائبين من الطلاب في أثناء عيد الفطر الذي تصادف في 21 أبريل 2023م، وأوضحت «ميديا بارت» أنّ أجهزة الاستخبارات تريد إحصاء عدد الطلاب المسلمين في المدارس، مضيفةً أنّه يمكن رؤية أنّ هناك شكلاً من أشكال الاستهداف الديني لسكان معينين، إنّها ممارسة تسيء إلى فرنسا كثيراً.
أما استهداف لاعبي الكرة المسلمين، ومحاولة إرغام بعضهم على ارتداء شارات الشواذ والبصق عليهم في الملاعب والمدرجات، فحدث ولا حرج!
لو أردنا تعداد مظاهر الكراهية الرسمية الغربية وما يشبهها للإسلام والمسلمين، لاقتضى ذلك وقتاً طويلاً ومساحات شاسعة، ولكننا نتمنى من كتابنا وباحثينا أن يعترفوا بالحقائق الواقعة على الأرض، ليسهموا في بناء وعي إسلامي صحيح، ويعالجوا قضايا الأمة وفقاً لمنهج علمي سليم.