الحسن البصري
قَالَ ابْن نَافِع: أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم عبيد الله بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد، قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد المظفر بن أحْمَد المظفر الأشموني الشمار، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن إبراهيم النَّيْسَابُورِي، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عَليّ الْحَنَفِيّ عَن أبي هُبَيْرَة الْبَاجِيّ، قَالَ: كتب الْحسن بن أبي الْحسن الْبَصْرِيّ رحمة الله عَلَيْهِ إلى رجل من الزهاد يُقَال لَهُ عبدالرَّحِيم أَو عبدالرَّحْمَن بن أنس الرَّمَادِي كَانَ يسكن مَكَّة شرفها الله تَعَالَى، وَكَانَ لَهُ فضل وَدين وَذكر، وَلم يكن لَهُ فِي الدُّنْيَا عمل إلا عبَادَة الله تَعَالَى، وأنه أَرَادَ الْخُرُوج من مَكَّة إلى الْيمن، فَبلغ ذَلِك الْحسن وَكَانَ يؤاخيه فِي الله تَعَالَى، فَكتب إليه كتاباً يرغبه فِي الْمقَام بِمَكَّة زَادهَا الله شرفاً أَوله:
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم..
حفظك الله يَا أخي بِمَا حفظ بِهِ أهل الإيمان ووقاك الْمَكْرُوه ووفقك لِلْخَيْرَاتِ وَأتم عَلَيْك النعم فِي كل الْأُمُور وجمعنا وَإِيَّاك فِي دَار السَّلَام، فِي جوَار الرَّحْمَن، فإن ذَلِك بِيَدِهِ وَلَا حول وَلَا قُوَّة إلا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم، أما بعد يَا أخي..
فَإنِي قد كتبت إليك وَأَنا وَمن قبلي من أهل الْعِنَايَة والأقارب والإخوان على أفضل مَا تحب وربنا الْمَحْمُود وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وعَلى آله وَصَحبه وَسلم.
اعْلَم يَا أخي أبقاك الله تَعَالَى أنه بَلغنِي أنك قد أَجمعت رَأْيك على الْخُرُوج من حرم الله تَعَالَى وأمنه والتحول مِنْهُ الى الْيمن، وَأَنِّي وَالله كرهت ذَلِك وغمني وَاسْتَوْحَشْت من ذَلِك وَحْشَة شَدِيدَة إِذْ أَرَادَ الشَّيْطَان أَن يزعجك من حرم الله تَعَالَى ويستزلك، فيا عجباً من عقلك إذ نَوَيْت ذَلِك فِي نَفسك بعد أَن جعلك الله من أَهله.
وَلَو أَنَّك حمدت الله تَعَالَى على مَا أولاك وأبلاك فِي حرمه وأمنه وصيرك من أَهله لَكَانَ الْوَاجِب عَلَيْك شكره أبداً مَا دمت حَياً، ولكنت مَشْغُولًا بِعبَادة الله عز وَجل أَضْعَاف مَا كنت عَلَيْهِ إِذْ جعلك من أهل حرمه وأمنه وجيران بَيته.
وَإِيَّاك ثمَّ إياك والقلق والضجر، وَعَلَيْك بِالصبرِ والصمت والحلم، فإنك تغلب بِهن الشَّيْطَان الرَّجِيم، وَإِيَّاك ثمَّ إياك يَا أخي وَالْخُرُوج مِنْهَا والانزعاج عَنْهَا فإنك فِي خير أَرض وَأحب أَرض الله تَعَالَى إليه وأفضلها وَأَعْظَمهَا قدراً وَأَشْرَفهَا عِنْده، فنسأل الله تَعَالَى أَن يوفقنا وَإِيَّاك لِلْخَيْرَاتِ فإنه الحنان المنان وَلَا حول وَلَا قُوَّة إلا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم.
اعْلَم يَا أخي أَن الله تَعَالَى فضل مَكَّة على سَائِر الْبِلَاد، وَأنزل ذكرهَا فِي كِتَابه الْعَزِيز فِي مَوَاضِع عديدة فَقَالَ تَعَالَى: {إِن أول بَيت وضع للنَّاس للَّذي ببكة مُبَارَكًا وَهدى للْعَالمين فِيهِ آيَات بَيِّنَات مقَام إِبْرَاهِيم وَمن دخله كَانَ آمنا}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم رب اجْعَل هَذَا بَلَدا آمنا}، {وارزق أَهله من الثمرات من آمن مِنْهُم بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر}، وَقَالَ تَعَالَى: {ثمَّ ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذ بوأنا لإِبْرَاهِيم مَكَان الْبَيْت أَن لَا تشرك بِي شَيْئا وطهر بَيْتِي للطائفين والقائمين والركع السُّجُود}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذ جعلنَا الْبَيْت مثابة للنَّاس وَأمنا وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذ يرفع إِبْرَاهِيم الْقَوَاعِد من الْبَيْت وَإِسْمَاعِيل رَبنَا تقبل منا إِنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم}، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا أمرت أَن أعبد رب هَذِه الْبَلدة الَّذِي حرمهَا}، وَقَالَ تَعَالَى: {بَلْدَة طيبَة وَرب غَفُور}، وَقَالَ تَعَالَى: {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله فَمن حج الْبَيْت أَو اعْتَمر فَلَا جنَاح عَلَيْهِ أَن يطوف بهما وَمن تطوع خيرا فَإِن الله شَاكر عليم}، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذا أَفَضْتُم من عَرَفَات فاذكروا الله عِنْد الْمشعر الْحَرَام واذكروه كَمَا هدَاكُمْ}.
فَهَذِهِ الْآيَات يَا أخي أنزلهَا الله تَعَالَى كلهَا فِي مَكَّة خَاصَّة وَلم ينزلها لبلد سواهَا، ثمَّ أفيدك يَا أخي بعد هَذَا مَا جَاءَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْأَخْبَار فِي فَضَائِل مَكَّة وفضائل أَهلهَا وَمن جاورها.
اعْلَم يَا أخي أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ حِين خرج من مَكَّة وقف على الْحَزْوَرَة واستقبل الْكَعْبَة وَقَالَ: «وَالله إِنِّي لأعْلم أَنَّك أحب بلد الله إِلَيّ وَأَنَّك أحب أَرض الله إلى الله عز وَجل وإنك خير بقْعَة على وَجه الأَرْض وأحبها إلى الله تَعَالَى وَلَوْلَا أَن أهلك أَخْرجُونِي مِنْك مَا خرجت».
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث آخر: «خير بَلْدَة على وَجه الأَرْض وأحبها إلى الله تَعَالَى مَكَّة».
وَمَا على وَجه الأَرْض بَلْدَة يرفع الله فِيهَا الْحَسَنَة الْوَاحِدَة غَايَة ألف حَسَنَة إِلَّا مَكَّة، وَمن صلى فِيهَا صَلَاة رفعت لَهُ مائَة ألف صَلَاة، وَمن صَامَ فِيهَا كتب لَهُ صَوْم مائَة ألف يَوْم، وَمن تصدق فِيهَا بدرهم كتب الله لَهُ مائَة ألف دِرْهَم صَدَقَة، وَمن ختم فِيهَا الْقُرْآن مرّة وَاحِدَة كتب الله تَعَالَى لَهُ مائَة ألف خَتمة، وكل أَعمال الْبر فِيهَا كل وَاحِدَة بِمِائَة ألف، وَمَا أعلم بَلْدَة يحْشر الله تَعَالَى فِيهَا يَوْم الْقِيَامَة من الْأَنْبِيَاء والأصفياء والأتقياء والأبرار وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَالْعُلَمَاء وَالْفُقَهَاء والفقراء والحكماء والزهاد والعباد والنساك والأخيار والأحبار من الرِّجَال وَالنِّسَاء مَا يحْشر الله تعالى من مكة.
________________________
من كتاب «فضائل مكة».