من الآيات الكريمة التي ذكرت الحج قولُه عز مِن قائل: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) (البقرة: 189)، ويلفت ذكرُ الحج فيها نظرَ القارئ المتدبِّر لها، من جهة أنها من أوائل ما نزل من الآيات في المدينة النبوية، وهي بالمناسبة أول آية تذكر الحج في ترتيب المصحف الشريف كذلك.
وإذا كان الحج قد فرض في السنة السادسة للهجرة -على أشهر الأقوال- فيكون السؤال الذي يتبادر إلى الذهن: لم كان هذا الحديث المبكِّر عن الحجِّ قبل هذا الأوان؟!
لم نزل القرآن الكريم يتحدَّث عن الحج وهو لم يطلبه بعد، لا على جهة الاستحباب والندب ولا على جهة الإيجاب والفرض؟!
بل فَرْضُ الحجِّ في السنة السادسة ذاتُه عجيب؛ فإن المسلمين لم يحجوا إلا في السنة التاسعة؛ لم يحجوا في السنة السادسة التي فرض فيها الحج، ولم يحجوا في السنة السابعة التي بعدها، ولم يحجوا في السنة الثامنة التي تلتهما.
ما حج المسلمون إلا في السنة التاسعة مع أبي بكر رضي الله عنه، ثم إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حج في السنة العاشرة، حجته الوحيدة بالناس؛ حجة الوداع.
فمنذ السنة السادسة، إذن، والمسلمون يسمعون ويقرؤون الآيات التي تطالبهم بالحج: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (آل عمران: 97)، (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) (البقرة: 196)، وغيرهما من الآيات.
ويسمعون ويتناقلون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفس الصدد: «يا أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا..»، «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان».
لماذا كان هذا الحديث الذي جاء أولًا في صورة الخبر قبل السنة السادسة، ثم جاء في صورة الطلب -طلب على وجه الحتم والإلزام- عندها وبعدها؟ لماذا كان هذا الحديث في هذا الوقت المبكِّر قبل التمكُّن من التنفيذ؟!
لقد كانت الأجواء وقت نزول هذه الآية قاتمة؛ المسلمون يُغزَون في ديارهم: بدر، وأحد، والخندق، ومع هذا نزلت الآيات تتحدث عن الحج حديثًا مجردًا!
ولقد كانت الأجواء وقت فرض الحج عصيبة؛ خرج المسلمون إلى البيت الحرام لأداء العمرة، بين أيديهم الهدي وليس معهم إلا سلاح المسافر، فصُدُّوا عن البيت ولم يتمكنوا من أداء عمرتهم وتحللوا في أمكنتهم فنحروا بُدْنهم وحلقوا رؤوسهم في مواضعهم.
ومع هذا نزلت الآيات التي تتحدث عن فرض الحج على كل مسلم ومسلمة وعمَّت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تدور حول نفس هذا المعنى!
إنها طريقة القرآن الفريدة المنتِجة في الأخبار والأحكام جميعًا: التقرير ثم التطبيق، بناء الشعور ثم التكليف، الغرس والعناية ثم حصاد الثمرة.
وهذا شهير، نلمسه في طلب الفعل وطلب الترك على السواء، كما في طلب فعل الصلاة وطلب ترك الخمر؛ مثالين.
فإن طلب فعل الصلاة تم على ثلاث مراحل:
الأولى: فرض قيام الليل ثم نسخ.
الثانية: صلاة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي.
الثالثة: فرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء.
وطلب ترك الخمر تم على أربع مراحل:
الأولى: الإشارة إلى سُوئها.
الثانية: النص على مضارها الغالبة على منافعها.
الثالثة: النهي عن الصلاة في حال السكر من الخمر.
الرابعة: تحريم شرب الخمر في كل حال.
والأمثلة على هذه الطريقة المباركة في التشريع كثيرة، يمكن ملاحظتها في الصوم، والاحتساب، والجهاد، وغيرها.
وبمثل هذا جاءت الآية التي أوردناها في صدر هذا المقال: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ)، تقرر -هي وما سبقها وما لحقها من إشارات الوحي المتعددة إلى قبيل زمن فرض الحج- أن الحج مشروع، وتلفت النظر إلى ضرورة حفظ حدوده ومعرفة شؤونه، ومطالعة تاريخه ومتابعة مسيرته، ورصد واقعه وتوقع مستقبله، ووضع العين على مكانه والتطلع لزمانه والتهيؤ لأدائه.
كل هذا والمسلمون لا يتمكَّنون من الأمن في بلادهم، ثم هم بعد حين يُصدُّون عن الوصول إلى المسجد الحرام، في الحالتين لا يتمكنون من أدائه!
لكن القرآن الكريم يعلمنا أن تقرير الدين شيء، وتطبيقه شيء آخر؛ الأول: مرهون بالعلم، والثاني: مرهون بالقدرة.
تمامًا كما أن الإيمان بالدين شيء والعمل به شيء آخر؛ فالأول: مرهون بالإقرار والتصديق والإذعان والقبول والتسليم، والثاني: مرهون بتوفر شروط الوجوب.
قد يجب الصوم على مسلم ولا يجب على آخر، لكنهما جميعًا مكلفان بالإيمان بفرضيته، وقد يجب الحج على مسلم ولا يجب على آخر، لكنهما جميعًا مكلفان بالإيمان بفرضيته، وقد تجب الزكاة على مسلم ولا تجب على آخر، لكنهما جميعًا مكلفان بالإيمان بفرضيتها.
وهكذا يمرُّ المسلم في قراءته للقرآن الكريم ومطالعته لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الشريف بأحكام يمكن ألا يتعرض لبعضها في حياته مرة، لكن حتم لازم بل ضروري أن يؤمن بها حتى يتحقق إيمانه؛ في جانب العبادات، والمعاملات، والأسرة، والجنايات، والأقضية والشهادات، والحقوق والواجبات، إلى آخر ما تقصه علينا آيات القرآن وأحاديث السُّنة من التشريعات.
ومن المهم القول: إن هذه الأحكام كانت تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مراحل التشريع سعيًا لإكمال الدين:
فتقرير الدين لم يكتمل في لحظة، بل ينزل شيئًا فشيئًا، يأخذ طريقه إلى القلوب والأسماع؛ لتعلمه وتفقهه.
وتطبيق الدين يتبع ذلك المنهج ذاته؛ كلما نزلت جملة من الأحكام أخذت طريقها إلى الجوارح والأعضاء؛ لتطبقها وتنفذها.
ولننتقل بعد هذا البيان إلى زمننا هذا الذي نعيش فيه ونحن نرى أحكام الله تعالى علميًّا ونظريًا مقرَّرة كاملة، لكنَّها في الواقع العمليِّ التطبيقيِّ منقوصة لا يعمل المسلمون بها جميعها، لأسباب معلومة تكرر الكلام حولها كثيرًا!
لنقرر مع هذا الانتقال أن اتباع طريقة القرآن الكريم التي أشرنا إليها –التقرير ثم التطبيق، بناء الشعور ثم التكليف، الغرس والعناية ثم حصاد الثمرة- لازم اليوم.
إن أحكام الدين التي لا يقوم المسلمون بأدائها -لتقصيرهم، أو لضعفهم- يجب ألا تغيب عنهم؛ لا يغيب عنهم الحديث حولها، والتعريف بها، والتنبيه عليها، وتعليمها، وبث أحكامها، والمطالبة بها، والتعريف بالواجب تجاهها.
فرض أن ننازع غيابها هذا -أو تغييبها- ونجبر القلوب والأسماع على استحضارها، والتفكير فيها، والتهيؤ لاستعادة العمل بها وتطبيقها.
فإذا كانت قد خفيت على فريق -أو أخفاها- تنبه لها غيره وأبداها، وإذا أغفلها طرف بحجة أو أخرى وجب على بقية الأطراف تذكيره وتنبيهه وإيقاظه وتحذيره.
إن هذا الحديث واجب على المسلمين جميعهم: علمائهم بالبيان والتقرير، وعوامِّهم بالإنصات والاستعلام.
أما أن يتواطأ الكل على الإخفاء والإغفال أو يفعل ذلك فريق ويسكت الباقون عن التنبيه والتحذير فهذا خطأ عظيم، سيئة آثاره وخيمة عواقبه.
فالعلم بالدين –كله– وتبليغه يجب أن يبقى ويدوم وإن عجزنا عن تطبيقه، والتعريف به وتقريره يتحتم الاستمرار فيه وإن عجزنا عن العمل به، فنعذر إلى الله بما نستطيع عما لا نستطيع، ولعل الله أن يرزق من الأجيال من يجمع العمل إلى العلم ويقوم بالدين جميعه، فلا نسهم نحن بسكوتنا مع العاملين على تجهيل تلك الأجيال يوم نورِّثهم الدين منقوصًا من جهتي العمل والعلم جميعًا، فنكون قد أضعنا الأمانة، ولا عذر لنا، فإن تضييع العمل بالدين والقعود عن تطبيقه ينبغي ألا يعود بالتضييع على العلم بالدين وحفظه وتقريره وتبليغه.