ليس إدراكٌ بلا دليلٍ، أو درايةٌ دونَ بينةٍ أنْ نقولَ: نشأ خالدُ بنُ البكيرِ الكناني الليثي في أكنافِ الحكمةِ، وشبَّ في أعطافِ الرجولةِ، وإنَّ الخصلتين الحكمةِ والرجولةِ كانتا من علاماتِ تميُّزِ أخبارِهِ، وإنَّ من حقِهِ منحَ سيرتِهِ شيئاً من الودِ والاهتمامِ، وما نتتبعُ أخبارَهُ إلا ونوقنُ من صدقِ ما استشعرناهُ أو من صحةِ ما حدسناهُ، فلئنْ كان الرجالُ مواقفَ فإنَّهُ أقام الدليلَ في إثرِ الدليلِ على صحةِ مواقفِهِ، فرغمَ حصارٍ من ظلمٍ وظلماتٍ انحازَ إلى الحقِ، وآمنَ بالدعوةِ الوليدةِ لمَّا لبَّى دعوةَ أخيهِ عاقلٍ وسبقَ غيرَهُ إلى مدِّ يمينِهِ مصافحاً الداعيَ صلى الله عليه وسلم ومبايعًا له في دارِ الأرقمِ بنِ أبي الأرقمِ رضي الله عنه(1).
مدَّ خالدٌ يمينَهَ مصافحاً النبي صلى الله عليه وسلم وهو دونَ العشرينَ، مصافحةً نغضُّ(2) من قدرِها، ونطامنُ(3) من قيمتِها إذا قلنا مصافحةٌ وحسبُ، ولكنَّنا نوفيها بعضَ حقِها إذا قلنا مصافحةٌ تنتظمُ بيعةً لله عزَّ وجلَّ ولرسولِهِ صلى الله عليه وسلم، مصافحةٌ حملتْهُ من ظلماتِ الشركِ إلى إشراقِ التوحيدِ، مصافحةٌ أكسبتْهُ كلَ نعوتِ الإنسانِ كما يجبُ أنْ يكونَ الإنسانُ، فغنمَ لقبَ سبَّاقٍ، وعندما اشتطتْ قريشُ في قسوتِها وأسرفتْ في وثْبَتِهَا ضدَّ المسلمينَ المستضعفينَ أذنَ النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابِهِ بالهجرةِ إلى المدينةِ فكان خالدٌ مع أخوتِهِ عاقلٍ، وإياسٍ، وعامرٍ في الطليعةِ؛ فحاز كل منهم لقبَ مهاجري، ونزلوا على رفاعة بن عبدالمنذر.
وفي المدينةِ يمضي خالدٌ وبينَ جوانحِهِ يختلطُ مزيجٌ من الحميةِ للدينِ والكرمِ فوقَ طريقِهِ، غادياً رائحاً إلى مسجدِ النبي صلى الله عليه وسلم لحفظِ القرآنِ وتحصيلِ علومِهِ حتى غدا من القُرّاءِ، وذاتَ يومٍ نادى منادِ الجهادِ للخروجِ إلى «بدرٍ» فمسَّ النداءُ وتراً مرهفاً في نفسِهِ، فلبَّى معَ إخوتِهِ ولا يعلمُ التاريخُ أربعةَ إخوةٍ شهدوا «بدراً» وهم في شرخِ الشبابِ غيرَهُم، وعلى ساحةِ «بدرٍ» أبلى خالدٌ بلاءً ما أحسنَ وقعَهُ ففازَ بلقبِ «بدرىٍّ»، وعادَ مع المسلمين تزفُّهم أفراحُ النصرِ غيرَ وخزةِ حزنٍ تنقرُ حبةَ قلبِهِ على أخيهِ عاقلٍ الذي خلَّفهُ شهيداً فوقَ ساحةِ «بدرٍ»، وكما عرفتْهُ حربُ بدرٍ خَبَرَتْهُ(4) حربُ «أُحدٍ»، ومضى مخلصاً لبيعتِهِ غيرَ وَانٍ ولا مُقَصِّرٍ حتى استُشهدَ يومَ الرجيعِ.
يومُ الرجيعِ، لا ريبَ أنهُ قد أتاك نبأُ هذا اليومِ، ومن أعماقِ التاريخِ أطلَّ عليكَ وجعُهُ، في يومٍ رامزٍ إلى تجلِّي دناءةِ الغدرِ وتجسيدِ وجهِ الخيانةِ.. يومٌ من شهرِ صفرٍ للسنةِ الرابعةِ هجريةٍ، قّدِمَ وفدٌ من عَضَلٍ وقَارَةٍ على النبي صلى الله عليه وسلم وذكروا لهُ أنَّ فيهم إسلاماً، وتمنوا عليه أنْ يُرْسِلَ معهم من يعلمُهم الدينَ ويقرئهم القرآنَ، وما كان صلى الله عليه وسلم ليتقاعسَ عن أي فعلٍ يضيفُ إلى الإسلامِ جديداً من ذيوعٍ وانتشارٍ، فبعثَ معهُم بعضَ صحبِهِ الأجلاءِ الحفظةِ القُرْاءِ، قالتْ بعضُ المصادرِ: إنهم كانوا عشرةً، وقالتْ أخرى: فبعث صلى الله عليه وسلم نفراً ستةً من أصحابِهِ: هم: مرثدُ بنُ أبي مرثدٍ الغنوي، وخالدُ بنُ البكيرِ الليثي، وعاصمُ بنُ ثابتٍ، وخبيبُ بنُ عدي، وزيدُ بنُ الدَّثِنةِ، وعبدُاللهِ بنُ طارقٍ.
وأَمّرَ صلى الله عليه وسلم على القومِ مرثدَ بنَ أبي مرثدٍ الغنوي، فخرجوا مع القومِ حتى إذا كانوا على ماءٍ لهذيلٍ يسمى الرجيعُ بناحيةِ الحجازِ، غدر الكفرُ بهم واستصرخ عليهم هذيلاً فلم يرعَ القُراءُ إلا ورجالُ الكفرِ قد غشوهم(5) وبأيديهم السيوفُ، فحملَ الصحبُ الكرامُ أسيافَهم للقتالِ، فقالوا لهم: إنَّا والله ما نريدُ قتالَكم، ولكنَّنا نريدُ أنْ نُصيبَ بكم شيئاً من أهلِ مكةَ، ولكم عهدُ اللهِ وميثاقُهِ ألا نقتلَكم.
فاستسلمَ بعضُ القُراءِ، بيدَ أنَّ خالدَاً بنَ البكيرِ، ومرثدَ بنَ أبي مرثدٍ، وعاصمَ بنَ ثابتٍ استحيوا أن يقبلوا من الكفرِ عهداً.
ورُغْم قلةِ عددِهم كان لهم شأنٌ ما زال التاريخُ يذكرُهُ بلسانٍ ندي وثناءٍ رطيبٍ، لما صاحوا في وجهِ الكفرِ: واللهِ لا نقبلُ من مشركٍ عهداً ولا عقداً أبداً.
واستلُّوا سيوفَهم وحملوا على أعدائِهم كالليوثِ العاديةِ(6)، ودارتْ بينَ الفريقين معركةٌ ضروسٌ قلما شهدَ تاريخُ الحروبِ لعدمِ تكافُئِها نظيرًا، وسقط القُراءُ الثلاثةُ، سقطوا ليصعدوا.. وتقرُّ عين خالدِ بنِ البكيرِ ويحصد لقبَ شهيدٍ، ليأتي التماثلُ بينَهُ وبينَ أخيهِ عاقلٍ أقوى وأظهرُ، فلئنْ استشهدَ عاقلٌ في بدرٍ وهو ابنُ أربعٍ وثلاثين، فقد استشهدُ خالدٌ يومَ الرجيعِ وهو أيضاً ابنُ أربعٍ وثلاثين، ويصعدُ خالدٌ كما صعدَ عاقلٌ في موكبِ الأجلاءِ السبَّاقين المهاجرين، البدريين الشهداء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) طبقات ابن سعد (3/ 383)، الإصابة (2153)، الاستيعاب (619)، أسد الغابة (1348)، سير أعلام النبلاء (3/ 111).
(2) نغضُّ: نُخفِض.
(3) نطامن: نسكن ونوقف.
(4) خَبَرَتْهُ: عرفته.
(5) يعني: حاصروهم.
(6) الليُوث العَاديِة: الأسود المغيرة، والليوث جمع ليث، والليث يعني: الأسد، ويعني: الشجاع.