أما د. يوسف القرضاوي، فقد عاد بذاكرته إلى باكورة النشأة التي ارتبطت في الأزهر الشريف بفلسطين عبر القصائد والمظاهرات وحماس الجماهير للتبرع لشراء السلاح للمجاهدين في فلسطين، مذكراً بمقولة الحاج أمين الحسيني، مفتي القدس الأسبق، بأن فلسطين ليست وطناً بغير شعب حتى تستقبل شعباً بلا وطن، ثم أفصح بأنه سئم الكلام في القضية، وقال: نحن نحتاج للسيف لا إلى القلم، فنحن في حاجة للبذل والجهاد، لكنه استدرك بقوله: إننا مضطرون للكلام حتى نوعي الناس بعد أن وجدنا من وهنوا وسكنوا وسلموا للأعداء هذه الأرض المقدسة، مؤكداً أن فلسطين هي قضية كل مسلم، وليست قضية العرب ولا الفلسطينيين وحدهم، ففيها المسجد الأقصى وأرض النبوات، قائلاً: كما أن اليهود في العالم يعتبرون “إسرائيل” دولتهم، فالمسلمون في أنحاء الأرض يعتبرون فلسطين والمسجد الأقصى قضيتهم الأولى في هذا العصر، فهي المحك والامتحان لإظهار صلاة المؤمنين أو ضعفهم أمام هؤلاء المستكبرين في الأرض بغير الحق.
الأرض أصل المعركة
ثم حدد فضيلته أصل المعركة فقال: إن بعض المسلمين يظنون أن المعركة معركة العقيدة، ورد قائلاً: إنها معركة الأرض، فقد كان اليهود يعيشون بيننا ولهم ذمة الله ورسوله والمسلمين، وقد لفظهم العالم ولم يجدوا كهفاً يؤويهم إلا دار الإسلام، فنحن لا نحاربهم لأنهم يهود، بل لأنهم ظالمون اغتصبوا الأرض، وشردوا الأهل، وانتهكوا الحرمات، وأخذوا أرضاً ليست لهم بغير حق، بل العنف والدم بممالأة الغرب المستعمر المتمكن من ديار الإسلام.
ثم ناقش د. القرضاوي قضية الأحقية المزعومة لليهود في فلسطين، فذكّر المسلمين بشروط النصارى أهل إيليا، لتسليم المدينة لعمر، وهي ألا يشاركهم فيها اليهود، وأكد بأن اليهود إن لم يغتصبوا الأرض فما كان بيننا وبينهم شيء، واستشهد بما كان لهم من تمكين في مصر فيما قبل عام 1948م من امتلاك للمتاجر والأرض والمال والسلطان، لكنهم حينما اعتبروا أرض فلسطين أرضاً لهم وسموها أرض الميعاد، وقالوا بوعد الله لهم بذلك على لسان إبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسرائيل لهم ولنسلهم كانت المعركة مع أن الواقع يكذب ذلك، ومر خلال سفر التكوين نفسه الذي ذكر أن سارة امرأة إبراهيم لم تجد قبراً تدفن فيه حتى اشترى لها قبراً، فهل يشتري أرضاً يملكها؟ وأكد فضيلته في هذا المقام أن هؤلاء (إبراهيم وإسحاق ويعقوب) كانوا بداة لا يحتاجون إلى أرض ولم يملكوها.
اليهود والنصارى
وذكر د. القرضاوي أن اليهود استطاعوا التأثير في النصارى من البروتستانت؛ فجعلوهم يؤمنون بهذا الوعد المزعوم في التوراة، وجاء ذلك في مذكرات بوش، وكارتر، حتى التأثير في كلينتون، وأصبح البُعد الديني النصراني مؤثراً في إمداد اليهود بالسلاح، لذلك فإننا لا يمكن أن ندخل القضية مجردين من البُعد الديني، فهم يدخلون باسم التوراة، ولا بد أن ندخل باسم الإسلام، وأكد أنه لا يفل الحديد إلا الحديد، وحديدنا أقوى من حديدهم، مكرراً إذا قالوا التلمود، قلنا البخاري ومسلم.
وقال د. القرضاوي: إنك لا تجد أمة من الأمم عنى بها القرآن كما عنى ببني إسرائيل، وذلك ليعرفنا بهؤلاء القوم وهو يعلم أنه ستكون بيننا وبينهم معارك متواصلة، وعدَّد صفاتهم القبيحة، مثل قسوة القلب، وحب الحرب (قال بيجين: أنا أحارب؛ إذاً أنا موجود)، والغدر، والتطاول، والوقاحة، والتحريف، والكذب، والافتراء، واستشهد في كل ذلك بآيات من القرآن الكريم ومن التاريخ الصحيح.
وهْم السلام
ثم تناول د. القرضاوي قضية السلام، فاستعجب ممن قالوا: جنح اليهود للسلم فنجنح نحن! ومن قالوا: الأرض مقابل السلام؛ أرضنا نحن مقابل سلامهم هم؛ أي نتنازل عن أرضنا ليعيشوا هم في سلام، فكيف يجنح للسلم من اغتصب الأرض ويعطينا جزءاً صغيراً منها! هذا السلام الهش الهزيل الذي عارضناه لا يمكن أن يكون، فهم يسيرون بسياسة المراحل؛ لكن “إسرائيل” الكبرى حلم الجميع من الفرات إلى النيل، ومن الأرز إلى النخيل (حدد ذلك بن جوريون: جنوب لبنان، وسورية، والأردن، وفلسطين، وسيناء)، وتعجب كيف يعطوننا حجرة في بئر سلم بعد اغتصاب البيت! لا بد أن نعي هذه القضية.
الجهاد هو السبيل
ثم أكد فضيلته أن كل الزعماء سواء، وقال: لا بد أن نعرف ونعي هذه القضية؛ لماذا انتصروا وانهزمنا نحن؟ فرغم أنهم أشح الناس بالمال، لكنهم دفعوا المال من أجل “إسرائيل”، وما دفعنا نحن، وقال: إنهم مجتمعون ونحن متفرقون، وتساءل: ألا تستحق القدس أن تعقد لها قمة إسلامية وليس مثل تلك القمة الهزيلة في باكستان؟ مرجعاً هذا الضعف إلى واشنطن التي لا تريد للعرب أن يجتمعوا؛ فننفذ نحن ما تريده أمريكا، لقد أصبحنا عبيداً لها، رغم أن الله قد خلقنا أحراراً، ودعا إلى أن نقبل المعيشة على الكفاف ولا نمد أيدينا لغيرنا، مذكّراً بجهود الملك فيصل، رحمه الله، في ذلك، ومؤكداً أن أمتنا تملك الكثير، وهم (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) (الحشر: 14)، لكننا أصبحنا مثلهم، مع أن المصائب تجمع المصابين، وأي مصيبة بعد أن تهدد القدس والمسجد الأقصى والحفريات تحته، وهم يقدرون يوماً له، فالأقصى مهدد، والقدس مهددة، فأين الأمة الإسلامية التي يجب أن تكف عن القتال في الصومال وأفغانستان والجزائر لتوجّه أسلحتها لليهود، فلا يمكن أن يسترد الحق إلا بالجهاد.
وقال: وإني أربأ بالسلطة الفلسطينية أن تضغط لتدمير “حماس”، و”الجهاد”، إذ يجب أن نشد أزر هذه القلوب المؤمنة ونقوي عضدها، ولا يمكن أن نأمن هؤلاء اليهود، واختتم قائلاً: فلسطين قضية المسلمين عامة، ويجب أن نبذل الغالي والنفيس من أجلها، ويجب أن نقف مجاهدين في سبيل الله، فالغد لنا، والمستقبل لنا.
العدد (1246)، ص42-43 – 8 ذو الحجة 1417ه – 15/4/1997م.