يعيش التراث الإسلامي أزمة معرفية نتجت عن صراع حضاري أُقحم فيه لنقل المعركة من طور الأنا والآخر لطور جديد يُعدل فيه عن قداسة النص وسلاسل الإسناد إلى ما يمليه رأي المتكلم دون دليل سوى ما تمخض عنه عقله دون الأخذ في الاعتبار توافر الآلة أو صلاح محل.
في هذا الحوار الذي أجرته «المجتمع» مع فضيلة د. علي القره داغي، الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الذي سلط الضوء على ظاهرة تأويل التراث الإسلامي، وما وراءها وخطورتها، بالإضافة إلى الإجابة عن عدد من الأسئلة في هذا الموضوع الشائك.
الذين يعادون تراثنا لا يعترفون لهذه الأمة بتاريخها وحضارتها
بداية، لماذا يكنُّ البعض كل هذه الضغائن والعداء تجاه تراثنا الإسلامي؟
– بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبعه.
أولاً قبل الإجابة عن هذه الأسئلة، أودُّ أن أوضح ما مفهوم التراث؛ لأنه محل اختلاف كبير بين العلماء وبخاصة علماء الاجتماع، والتعريف الذي نراه راجحاً وصحيحاً هو أن التراث عبارة عن «كل ما تركه الأقدمون»، فيشمل: التراث النبوي، والتراث الشرعي، والتراث الإنساني، والتراث الفكري، والتراث المادي، والتراث القومي والشعبي.
وبهذا المعنى الشامل نقسم التراث الإسلامي إلى قسمين؛ تراث له قدسية وهو القرآن الكريم والسُّنة النبوية المشرفة؛ لقوله سبحانه في محكم كتابه بسورة «فاطر»: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) (فاطر: 32)، فهذا الجانب من التراث هو المتمثل في النصوص الشرعية الصحيحة، وهذا النوع من النصوص لا يجوز تحريفها أو تبديلها؛ وإنما هي نصوص مقدسة.
لكن معاني هذه النصوص على نوعين؛ نوع واضح المعنى، قطعي الدلالة والثبوت؛ أي لا يحتمل النص معنى غيره وهي تلحق بالتراث المقدس، أما ما عدا ألفاظ ومعاني هذه النصوص القطعية فإنها داخلة في الفقه العام والاجتهادات العامة التي لم تصل إلى مرحلة الإجماع، فكل هذا النوع من التراث يقبل النظر والنقاش دون تبخيس ولا تقديس، هذا بالنسبة لمفهوم التراث.
وبالرجوع لسؤالكم: لماذا هذا العداء للتراث الإسلامي؟ أجيب بأن هذا التراث الإسلامي يمثل الحضارة الإسلامية ببعديها الشرعي النصي الفقهي والاجتهادي، والحضاري في مجالات مختلفة مثل الاجتماع والاقتصاد والكيمياء والفيزياء، وهؤلاء الذين يعادون تراثنا لا يعترفون لهذه الأمة بتاريخها ولا يريدون مجدها وحضارتها؛ وبالتالي يحاربون هذا التراث حتى تبقى أمتنا بدون رصيد أو جذور أو أصول، فهذا هو أحد الأسباب.
أكبر مظاهر العداء هو تشويه هذا التراث والتشويش عليه
والسبب الآخر يتمثل في العداء الأيديولوجي، وهذا حتى داخل عالمنا الإسلامي، مع الأسف الشديد، من العلمانيين والشيوعيين المتطرفين الذين يكرهون هذا التراث كراهة عقدية أيديولوجية.
ما أبرز مظاهر العداء للتراث الإسلامي وفي القلب منه السُّنة المطهرة؟
– بالطبع أكبر مظاهر العداء هو تشويه هذا التراث، والتشويش عليه بكل ما تعنيه الكلمة، سواء كان تراثاً نبوياً -وهو مقدس في نظرنا- وبالأخص الكتاب والسُّنة النبوية الصحيحة الثابتة، أو تراثاً حضارياً، وهدمه يعني اقتلاع وإنكار جذور الإسلام، ومحاولة النيل من هذا التراث بجعله أبعد عن حقائق الإسلام.
الأعداء يحولون جهودهم إلى مؤسسات لتركيز الهجوم على ثوابتنا وتراثنا، فبالمثل كيف تتركز جهودنا في مواجهتهم؟
– الرد على هذا السؤال يكون بوضع خطة إستراتيجية تكاملية بين السياسيين والمفكرين والمثقفين وطبعاً العلماء والمجتهدين، والاستفادة من علماء الأمة؛ كل في مجاله، هذا في مجال التفسير والحديث أو الفقه والأصول، يبذلون جهودهم لإثبات هذا التراث وعظمته وأهميته، وأن هذا التراث الإسلامي هو المِشْعَل لحضارة أوروبا، وهو الذي أسرج وأضاء القناديل في أوروبا، وحتى هذا باعتراف المنصفين من علمائهم.
وللأسف، عندما يبحث التاريخ الأوروبي عن التراث الإيجابي يبدأ حديثه بالكلام عن التراث اليوناني والأفريقي والروماني، وينتقل مباشرة إلى العصر الحديث، وهذا ظلم وتعسف كبير!
واجبنا أن نركز ونوحد جهودنا في مواجهتهم، وإثبات عكس ذلك، وإبراز دور تراثنا الإسلامي في الحضارة والقيم الإنسانية من حيث التعامل وفي التقدم.
التراث الإسلامي هو المِشْعَل لحضارة أوروبا باعتراف المنصفين منهم
ما دور الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في التصدي لأعداء التراث؟
– بتحقيق التراث الإسلامي وإبرازه بالشكل المطلوب بشقيه؛ النبوي الشريف المتمثل في كتاب الله وسُنة نبيه الصحيحة صلى الله عليه وسلم، والتراث الفكري الفقهي والاجتهادي والاجتماعي وغير ذلك، فنحن نحارب بكل وسائلنا، ومن خلال لجاننا وعلمائنا ومراكزنا نحاول إبراز وإثبات هذا الدور.
وطبعاً الأهم من ذلك وضع هذا التراث في محله دون تقديس أو تبخيس؛ لأنه كرد فعل على هؤلاء المستشرقين أو هؤلاء العلمانيين هناك من يقدس التراث مطلقاً، والتراث الإسلامي عدا الكتاب والسُّنة ليس مقدساً، وإنما هو قابل للاجتهاد والتغيير والتطوير، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يواجه الجهتين؛ جهة التبخيس التي تبخس التراث الإسلامي، وجهة التقديس التي تقدس غير الكتاب والسُّنة، وهذا طبعاً لا بد أن تتضمنه هذه الجهود، وأنا أسميه «فقه النزاع».
نحتاج خطة إستراتيجية للاستفادة من التراث وإبراز دوره الحضاري
ختاماً، ما الجهود الاحترازية التي تنصحون بها وتودون أن يقوم عليها الأفراد والمؤسسات والحكومات لحماية الثوابت والمقدسات؟
– الجهود الاحترازية تتمثل في أن تهتم وزارات التربية بغرس وتفهيم المجتمع والطلبة من الروضة إلى الجامعة، في بيان حقيقة هذا التراث ودوره في تحقيق الحضارة وتحقيق الإنسانية والتعاون والتفاهم بين البشر، والتفرقة بين التراث المقدس الذي لا نستطيع النيل منه، والتراث الاجتهادي الإنساني الذي هو قابل للمناقشة والتعديل والتغيير والإضافة والتجديد وما أشبه ذلك، ثم توجيه الخطباء والعلماء لتحقيق هذه الأهداف المهمة.
يعني، بصراحة، نحتاج إلى خطة إستراتيجية شاملة؛ لوضع التراث في محله والاستفادة منه استفادة قصوى، وإبراز دوره على مستوى عالمنا الإسلامي والعالم كله.