منذ خروج قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان من الخرطوم وانتقاله هو وحكومته إلى مدينة بورتسودان، والحديث لا يتوقف عن تداعيات نقل العاصمة فعلياً من الخرطوم، وإعلانه أنه سيشكل «حكومة مؤقتة» جديدة من بورتسودان، اعتبره محللون وسياسيون سودانيون خطوة خطرة قد تدفع إلى تقسيم السودان، على غرار السيناريو الليبي، بعدما هدد غريمه محمد حمدان دقلو «حميدتي» بإنشاء حكومة ثانية في مناطق سيطرته.
ففي أعقاب إعلان البرهان نيته تشكيل حكومة جديدة من بورتسودان، وتأكيد نائبه الجديد مالك عقار أنه سيتم إعلانها عقب عودة البرهان من رحلته الخارجية التي تنتهي في نيويورك، لوح قائد قوات «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو المعروف بـ«حميدتي» بتشكيل «سلطة سياسية حاكمة» في مناطق سيطرة قواته، إذا شكل خصومه في الجيش حكومة، ومن الواضح أن تهديد قائد قوات «الدعم السريع» بهذا الأمر لا قيمة له وهدفه الضغط على الجيش.
فإمكانية تطبيق هذه الفكرة على الأرض، في ظل استمرار القتال الدائر بالعاصمة الخرطوم ومدن أخرى، أمر صعب؛ لأنه لا يسيطر فعلياً على مناطق واسعة من البلاد، وإنما مناطق متفرقة ولا يسمح له الجيش بالاستقرار فيها.
أيضاً ما يتوقعه البعض بشأن «سيناريو ليبيا»؛ أي وجود حكومتين في السودان، يبدو أمراً مستبعداً، وأنه دعاية أو تهديد وضغط من حميدتي لتخويف السودانيين من فكرة تشكيل البرهان حكومة مؤقتة بديلة واستبعاده منها هو وأنصاره، وكذلك لأن السلطة الحاكمة التي يتحدث عنها حميدتي لا تتحقق فقط بالقوات والانتشار العسكري، ولكن بوجود سيطرة على مؤسسات الدولة والمصالح الحكومية وولاء الموظفين له، وهذا غير حاصل.
البرهان يسعى من خلال جولاته الخارجية إلى حشد الدعم لوقف الحرب
الوضع في السودان أيضاً يختلف، ولن تغامر القوى السياسية بسمعتها من أجل حميدتي، الذي سينتهي تمرده عاجلاً أم آجلاً، وكذلك يصعب تصور أن تغامر أي دولة عربية أو أفريقية بإعلان دعمها لحكومة حميدتي حتى ولو كانت دول تردد أنها تدعمه.
ويرى محللون أنه في حال طبق حميدتي تهديده، فإنه سيكون بمثابة «انتحار سياسي»؛ لأن السودان سيشهد بذلك وجود حكومتين؛ ما يعني ترسيخ انقسامات حقيقية في المجتمع، وترشيح الصراع بين مجموعات مختلفة تحارب بعضها بعضاً.
لكن يظل انتقال البرهان والحكومة إلى بورتسودان خطأ؛ لأنه سمح لحميدتي لترويج أنه يسيطر على العاصمة، ويزعم أن البرهان هرب من الحصار، لكنها ربما خطوة لإعادة ترتيب الأوضاع بالتنسيق مع القوى السياسية ودول العالم؛ ولهذا جاءت جولة البرهان الخارجية.
وكان البرهان قد غادر الخرطوم ووصل إلى ميناء بورتسودان على البحر الأحمر، في 24 أغسطس 2023م، ومن هناك قام بجولة خارجية إلى مصر ثم جنوب السودان وقطر وإريتريا وتركيا وأوغندا وأخيراً أمريكا.
وحتى ما قبل مغادرة البرهان مقر قيادة الجيش، في 24 أغسطس الماضي، كانت قوات «الدعم السريع» تقول: إن قائد الجيش محاصر تماماً في قبو داخل مقر قيادة الجيش وسط الخرطوم، مؤكدة أنها (قوات الدعم السريع) تسيطر على مقر القيادة العامة للجيش بشكل كامل، وحتى اليوم تقوم بمهاجمة المكان بشكل مستمر.
وما يؤشر على أن الحرب قد تطول، أن «الدعم السريع» تسيطر على أجزاء واسعة من العاصمة، فيما يسيطر الجيش على مقراته فقط في الخرطوم، وبقية الأقاليم ما عدا دارفور الذي تنافسه فيه «الدعم السريع» وترغب في تحويله لعاصمته لو خرجت من الخرطوم.
تشكيل حكومتين أمر مستبعد فقط هو ضغط من حميدتي لتخويف السودانيين
وبشكل عام، تنتشر «الدعم السريع» في المناطق السكنية بجميع أنحاء الخرطوم وفي بحري وأم درمان المجاورتين، كما تسيطر على جزء من القيادة العامة للقوات المسلحة، وتنتشر في القصر الجمهوري، وفي مطار الخرطوم وعدد من الوزارات والمؤسسات، كما تنتشر في منطقة الخرطوم بحري وجنوب الخرطوم، وفي المناطق السكنية شرق الخرطوم (الرياض والمنشية والطائف وأركويت)، ومناطق جنوب الخرطوم، بحسب وسائل الإعلام المحلية.
أهداف جولة البرهان الخارجية
تختلف أهداف جولة البرهان باختلاف الدول التي زارها، فزيارته لمصر وتركيا تبدو ذات طابع عسكري أمني، حيث اصطحب معه وفداً عسكرياً على رأسه الفريق أول ميرغني إدريس سليمان، رئيس هيئة التصنيع الحربي بالسودان، وكان لافتاً تزايد هجمات الطيران بالطائرات المسيرة من جانب الجيش السوداني على قوات حميدتي عقب هذه الزيارات؛ ما قد يشير لحصول الجيش على تقنيات حديثة وطائرات مسيرة تركية إضافة لعتاد عسكري مصري.
ويبدو أن قيام البرهان بإعلان حل «الدعم السريع»، ثم مبادرة الولايات المتحدة الأمريكية بفرض عقوبات على قادة حميدتي، والحديث عن إحالة ملفهم للجنائية الدولية، وتأجيل إعلان الحكومة المؤقتة، كلها خطوات للضغط على حميدتي كي يرضخ للسلام وينهي الحرب.
وقالت صحيفة «سودان تربيون»: إن البرهان يسعى، من خلال جولاته الخارجية، إلى حشد الدعم لوقف الحرب من خلال إقناع الأطراف الإقليمية والدولية أن الجيش يسيطر على أغلب مناطق السودان، مضيفة، عبر مصادر لم تسمها، أن قائد الجيش يلقي بثقله خلف المبادرات المصرية، لكنه لا يثق بمبادرة «إيغاد» الأفريقية.
4 سيناريوهات بشأن الصراع الدموي من بينها احتمالات تقسيم البلاد
4 سيناريوهات
منذ بداية الحرب، يطرح محللون ومراكز أبحاث سيناريوهات مختلفة لمستقبلها، وهل تتحول إلى حرب أهلية طويلة الأمد، أم ينتصر الجيش أو «الدعم السريع»؟ لكن السيناريو الأخطر الآن هو هل ينتهي الأمر بتقسيم وتفكك البلاد وانفصال أقاليم في ظل سيطرة الجيش وأنصاره على مدن ومناطق، و«الدعم السريع» بالمثل؟
في 31 أغسطس 2023م، حذر قائد الجيش السوداني من أن البلاد سوف تنقسم إذا لم يتم حل الصراع المميت بين الجيش و«الدعم السريع» شبه العسكرية المنافسة، بحسب وكالة «أسوشيتد برس»، وقال البرهان، في كلمة وجهها إلى قوات الشرطة السودانية في مدينة بورتسودان على البحر الأحمر: «إننا نواجه حرباً، وإذا لم يتم حلها سريعاً فسوف ينقسم السودان».
وفي 9 أغسطس 2023م، قالت مساعدة الأمين العام للأمم المتحدة «مارثا أما بوبي»، أمام مجلس الأمن: «كلما طال أمد هذه الحرب؛ زاد خطر التشرذم والتدخل الأجنبي وتآكل السيادة وخسارة مستقبل السودان».
من جانبها رصدت منصة «أسباب» المختصة بالتحليل السياسي والإستراتيجي، في عدد أغسطس 2023م، نحو 4 سيناريوهات بشأن ذلك الصراع الدموي في السودان، من بينها احتمالات تفكك السودان؛ وكان أول هذه السيناريوهات أن يتحول الصراع إلى حرب أهلية ممتدة، لعدة أسباب من بينها عدم وجود أي مؤشرات على التهدئة أو التوصل إلى حل سلمي عما قريب، ولتدخل جهات خارجية في الصراع ودعمها إحدى الفصائل المتحاربة بصورة مباشرة أو غير مباشرة، مدفوعة بما يخدم مصالحها الخاصة؛ ما يؤدي إلى إطالة أمد الصراع، وتعقيد جهود التوصل إلى حل سلمي.
مع التقسيم ستنفجر الصراعات المسلحة بين المناطق والجماعات العرقية
كما أن وجود الموارد القيمة بالسودان، مثل النفط والمعادن، يزيد من جاذبيته في أعين الجهات الخارجية الساعية لاستغلال هذه الموارد، وفي هذا الإطار، قد يكون السيناريو الأول عبارة عن سقوط السودان في فخ الحرب الأهلية الطويلة، التي تتسم بمعارك مكثفة وطويلة بين الجيش و«الدعم السريع».
أما السيناريو الثاني فيتمثل في انتصار البرهان وتحقيق القوات المسلحة السودانية نصراً حاسماً على «الدعم السريع»، وسيطرتها على البلاد، مستغلة قدراتها العسكرية المتفوقة، مثل القوة الجوية والمدرعات والاستخبارات، بجانب الانقسامات الداخلية المحتملة في صفوف «الدعم السريع» وانشقاق بعض قادتها وجنودها وانضمامهم إلى القوات المسلحة.
والسيناريو الثالث هو انتصار حميدتي وقواته «الدعم السريع» لتعزز بذلك سيطرتها على السودان، وبرهنتها على كونها خصماً هائلاً للقوات المسلحة، بفضل هيكلتها اللامركزية وكفاءتها في حرب العصابات، والدعم الخارجي، وسيكون ذلك بفضل تحالفات مع الجماعات المسلحة الأخرى، سواء داخل السودان أو من البلدان المجاورة، التي ستوفر مزيداً من القدرات العسكرية والموارد والمجندين والتمويل، ما سيُتيح لـ«الدعم السريع» الحفاظ على وتيرة عملياتها الهجومية وتصعيدها.
لكن انتصار «الدعم السريع» سيأتي مصحوباً بتداعيات متداخلة على الأمن والاستقرار في السودان، ومخاوف حيال انتهاكات حقوق الإنسان والتوترات العرقية، والمقاومة المحتملة من الفصائل المعارضة.
وأخيراً السيناريو الرابع هو تقسيم السودان، وذلك حال أجج صراع السلطة المتصاعد بين البرهان، وحميدتي، الانقسامات العرقية والإقليمية القائمة، ودفع بالسودان نحو حالة التفكك، مدفوعاً بطموحاته الشخصية ورغبته في السلطة؛ حيث سيؤدي تنافسهما من أجل السيطرة والهيمنة على السودان إلى تفاقم التوترات؛ ما سيزيد استقطاب الفصائل والمناطق على حد سواء.
ومع تصعيد الصراع أكثر، ستضعف الحكومة المركزية لتطغى عليها طموحات القوات المسلحة و«الدعم السريع»، بينما سيعطي كلا الفصيلين الأولوية لتعزيز سلطته على المناطق الخاضعة لسيطرته؛ مما سيسفر عن تفكك الحكومة المركزية وظهور مناطق الحكم الذاتي.
ومع تقسيم السودان ستنفجر الصراعات المسلحة وصراعات السلطة بين المناطق والجماعات العرقية المختلفة، التي ستتنافس للسيطرة على الأراضي أو الموارد أو النفوذ السياسي، وستستمر المظالم التاريخية والصراعات التي لم تُحل بعد، مثل صراع دارفور أو انفصال جنوب السودان، في تحريك مطالبات حق تقرير المصير.