من عادتي أني لا أركب إن استطعت المشي، ولا أمشي في الظل إن قدرت أن أمشي في الشمس، سواء علي في ذلك شمس لبنان في تشرين وشمس الهند في تموز، وكان النهار أمس صائفاً حاراً، فحللت هذا الرباط عن عنقي وطويته ووضعته في جيبي.
فمرّ بي صديق أحبه وأحترمه، ولكني أنكر عليه أنه يتمسك بالعادات أكثر من تمسك العابد بالدين، ويحرص على رضا الناس أشد من حرص الزاهد على رضا الله، فلم يكد يفرغ من السلام حتى أقبل عليّ صارم الوجه بادي الاهتمام فقال: وكيف تصنع هذا؟ فارتعبت وقلت: وماذا صنعت؟ وجعلت أذكر: هل أحدثت في الإسلام حدثاً؟ أو آويت محدثاً أو جنيت جناية؟ فلما لم أذكر قلت: وضّح يا أخي وقل لي ما الذي بلغك عني، فلعل الذي بلّغك فاسق أو كاذب.
قال: ما بلّغني أحد، ولكني أرى بعيني، وأشار إليّ، قلت: وما ذاك؟ قال: العقدة (الكرافات)، كيف تمشي بلا عقدة؟ هذا لا يليق بمستشار، ماذا يقول عنك الناس؟ فتركت الحوار وقعدت أفكر، فإذا نحن نعمل كل شيء للناس، نخنق أنفسنا بهذه العقد التي نضعها في أعناقنا كالأرسان ونتكلف منها في حر الصيف ما لا يُطاق من أجل الناس!
والنساء يتخذن هذه الأحذية الفظيعة ذوات الكعوب العالية مع أن المشي بها أصعب من المشي على الحبل، ومَن لم يصدّق من الرجال فليمشِ مائة خطوة على رؤوس أصابع قدميه! وهي -فوق ذلك- تُصلّب عضلات الساق وتشوّه جمالها، وما للبسها معنى وليس فيها جمال، ولكن هكذا يريد الناس!
ورأيت مرة امرأة واقفة في الترام والمقاعد خالية، وكلما دعوها لتجلس أبت، ثم تبين لي أنها تلبس إزاراً (خرّاطة أو جونيلا) ضيقاً عجيباً لا تستطيع معه المشي إلا كمشي المقيّد بالحديد، ولا تستطيع صعود درجة الترام إلا بكشف رجليها وإخراجهما منها، فلذلك لا تستطيع القعود، تتساءلون: لماذا تعذّب نفسها هذا العذاب؟ من أجل الناس!
ومن الشبان من يصفف شعر رأسه تصفيفاً فنياً يشتغل به نصف ساعة، ويبقى النهار كله خائفاً أن تهب نسمة هواء أو أن تقترب منه يد طائشة في الترام فتفسد هندسته، وربما أدركته الحكة فاحتمل ألمها طول النهار ولم يستطع أن يمد أصبعه فيحكه، لماذا؟ لأجل الناس!
وكل خير هو للناس! المرأة ظرفها ولطفها للناس، تقابل ضيوفها وصديقاتها بالوجه المشرق والفم الباسم والجَرْس الناعم والأدب البالغ، وزوجها ليس له إلا التجهم والنظر الشزر واللفظ الجافي، وكذلك يصنع الزوج!
وزينتها للناس، إذا خرجت تزيّنت للغرباء وتعطرت وارتدت أجمل أثوابها، وزوجها لا تلقاه إلا منفوشة الشعر كالحة الوجه، تسبقها روائح السمن والبصل والثوم، وكذلك يصنع الزوج!
والمائدة المرتَّبة في غرفة الطعام للناس؛ فإذا جاء الناس صُفَّت الأطباق والصحون ونُضِدت الأوراد والزهور، وإن لم يكن أحد كان الأكل في المطبخ، وغرفة النوم ذات الأسرّة المرتبة والأغطية المطرزة ليراها الناس، وأصحابها ينامون في غرفة أخرى فيها أسرّة من حديد ولحف بلا ملاحف!
نتعب أنفسنا ونقيد أعناقنا وأرجلنا للناس، وكل خير عندنا للناس.
والخلاصة أنه يجب أن يكون قيامك وقعودك وأكلك ولبسك وفرش بيتك ونفقات يومك كما يريد الناس أن تكون، ولو اختنقتَ حساً ومعنى، ولو نُكبت في سعادتك وفي مالك، ولو احترق نَفَسُك، وإلا انتقدك الناس! الناس، دائماً الناس!
فيا أيها الناس، متى نعيش لأنفسنا؟ ومتى نستطيع أن نقف عند حد الشرع وحد العقل؟ ومتى يخرج فينا العقلاء الأقوياء الذين يكسرون هذه القيود؟ أمّا أنا فوالله ما أبالي هذا كله، ولكن أعظ من شاء أن يتعظ: أن يتبع دينه أولاً فلا يأتي محرماً، ثم يتبع العقل، ثم يعمل ما يراه خيراً ويمدّ رجليه على قدر لحافه وينفق النفقة الضرورية ويترك التبذير ولو كان أغنى الأغنياء، ولا تخشوا قول الناس ما دمتم لم ترتكبوا محرماً ولا ممنوعاً شرعاً، وهل عند الناس إلا أن يقولوا؟! لقد قالوا عن محمد صلى الله عليه وسلم (وهو خاتم الأنبياء): مجنون، وقالوا: ساحر، وقالوا: كذّاب، فليقولوا عنكم ما شاؤوا، ولا تبالوا بسخط الناس إن كنتم قد أرضيتم الله.
_____________________
المصدر: كتاب «مع الناس».