في 7 أكتوبر 2023م، بدأ عهد جديد للقضية الفلسطينية يقوم على المقاومة والمواجهة والمبادرة، وانقضى عهد قديم كانت سماته الأساسية القصور في المعالجة، والمتاجرة بالنضال، والخيانة الصريحة أو المستترة.
في 7 أكتوبر 2023م، استيقظ العالم على واقع جديد، يقول: أنا القضية الفلسطينية.، أنا هنا.، أنا مرحلة جديدة في العمل والفكر يتم فيها إيلام العدو؛ لأنه ليس بالصورة المخيفة، التي تثير الذعر والرعب، وتزعج عشاق الراحة، والمخلفين والقاعدين عن القتال!
أرض 1948
80 عاماً والعرب والمسلمون يقفون على أبواب عصبة الأمم والأمم المتحدة وما يسمى المجتمع الدولي دون جدوى، ولكن عودة المقاومة أو الجهاد بالمصطلح الإسلامي أو الفريضة الغائبة أو المغيبة بفعل الفكر المهزوم، جعل العدو -ربما لأول مرة بعد حرب رمضان 1393هـ/ أكتوبر 1973م- يخوض قتالاً على «أرض 1948» التي يعد الاقتراب منها من المحرمات، ويواجه المقاتلين من أجل العقيدة والحرية بإمكاناتهم البسيطة، في ظل حصار شامل وشرس منذ عام 2006م، فيخسر كثيراً، وتتمرغ كرامته في التراب، ولأول مرة يفرض على المحتلين الغزاة أن ينزحوا من محيط غزة (600 ألف نازح يهودي)، وأن يخوض بكل إمكاناته المدعومة بالبوارج وحاملات الطائرات وخطوط الإمداد الجوي بالذخيرة والسلاح القادمة من واشنطن ولندن وباريس حرباً طويلة الأمد لم تتوقف، حتى كتابة هذه السطور، وكان قد تعود فيما مضى على الحروب الخاطفة خارج «أرض 1948»، دون أن يحظى بمواجهات حقيقية إلا في حرب رمضان.
لقد خسر في 7 أكتوبر 2023م خسائر غير قليلة؛ الرجال والسلاح والأسرى والدعاية الكاذبة التي فرضها على العالم، فضلاً عن الخسائر الاقتصادية التي تقدر بأكثر من 250 مليوناً من الدولارات يومياً بسبب تجنيد الاحتياطي (350 ألفاً)، وتوقُّف مؤسساته ومصانعه كلياً أو جزئياً، وانهيار السياحة، وإغلاق عديد من مطارات العالم في وجه طائراته، ثم كانت الضربة الموجعة بمقاطعة الشركات التي تسانده في الغرب، أو تتخذ وكلاء في العالم العربي والإسلامي.
ثم إن «طوفان الأقصى» كشفت للعرب والمسلمين حقيقة أدعياء النضال، وطلاب التطبيع، وأنصار ما يسمى بالسلام (الاستسلام بمعنى أدق)، ودعاة الديانة الإبراهيمية.
الطبيعة الهمجية
فقد كشفت وحشية العدو وطبيعته الهمجية الدموية التي بدأت منذ قرن ونصف قرن، إذ بدأت عناصره العمل لتفكيك الخلافة العثمانية وتمزيق الدول الإسلامية، وفرض الثقافة الغربية في أحط صورها وأبشعها عبر إنشاء نخب معادية للإسلام والمسلمين، وتقود الأمة نحو التخلف والانحطاط، وتشغلها بالفتن والصراعات الدموية، وتحولها إلى قصعة الأمم حيث ينال منها كل مغامر، ولا يبقى لها إلا أن تمد يدها إلى كل ظالم تستنجد به، وتستجدي قروضاً ومعونات وهبات، مع أنها تملك ثروات وإمكانات لا تتوفر لغيرها.
المنهج الغائب
«طوفان الأقصى» أعاد الشعوب إلى منهجها الغائب، وهو القرآن الكريم الذي خجلت منه النخب المصطنعة، وعملت على إبعاده عن حياة الناس وتشريعاتهم وسلوكهم، وحاربته في التعليم والإعلام والثقافة، وبقوة السلاح صار المسلم في بلاد الإسلام غريباً منبوذاً مكروهاً، تصوره الأفلام والدراما ومقالات الكتَّاب وخطب الزعماء بالظلامي الإرهابي المعادي للحياة، بينما تتغزل في الغزاة اليهود القتلة وسادتهم الغربيين دعاة القتل الإلهي! اليوم صار منهج القرآن هو الطريق لتحرير «الأقصى» والقدس وفلسطين، ولو كرهت هذه النخب وصنّاعها.
المقاومة التي تنطلق من تصور إسلامي يؤمن بالنصر أو الشهادة، جعلت شعوب الأمة تستعيد هويتها الإسلامية التي غابت طويلاً وطمسها الغرب واليهود، فحقق العدوّ بسبب الغياب مكاسب عديدة، وأنزل بالأمة خسائر لا تحصى في ظل النخب المتغربة المتهوّدة، والمفارقة أن بعض هذه النخب من لابسي العمائم، الذين يصفون المقاومة بخوارج العصر، أو صنّاع الفتنة! وبدلاً من شدّ عزيمتها وتشجيعها والوقوف إلى جانبها، يقدمون خدمة رخيصة للعدو بشيطنتها وتجريمها، وما بالنا ونحن نتابع بطولات المقاومة الرائعة في القتال على أرض غزة ونشاهد تدمير دبابة «الميركافا»، والإيقاع بأقوى العناصر المقاتلة في صفوف العدو.
بينما نقرأ لأحد البائسين من خدام المخلفين والقاعدين عن نصرة المقاومة، يهجو في صحيفة أسياده قادة المقاومة ومنهجها، ويقلل من جهدها وجهادها ويتحدث عنهم كاذباً: «يختبئون في أنفاقهم ويبيعون شعوبهم برخص التراب! هؤلاء بكل أسف هم من تمجدهم الأمة، مجموعة جبناء، تجار دم، وهم أصل بلاء هذه المنطقة، فالقائد الحقيقي المخلص الشجاع يقف مع أتباعه ويكون في مقدمتهم، همهم الدنيا ومع ذلك تجد أناساً مغرّراً بهم غُيّبت عقولهم يقاتلون من أجل لا شيء، ويفقدون حياتهم من أجل قادة باعوهم برخص التراب..»!
ولو أن هذا التعيس قرأ بعض تاريخ الأمم في تحرير بلادها من الغزاة، لعرف أن المقاومة من أشرف الظواهر التي نبتت في عصور الهزيمة والهوان والانبطاح، هل لهذا الكائن الاستعمالي أن ينظر مثلاً إلى أمريكا اللاتينية، وما بذله الناس هناك ليحرّروا بلادهم وأراضيهم من الغزاة والمستبدين والخونة؟
المخلَّفون والقاعدون
(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) (التوبة 81)، وارتمى المخلَّفون بتوجيهات دعاة القتل الإلهي الذين يسمونهم في الغرب بالصهاينة المسيحيين في أحضان العدو، وتوقيع اتفاقيات لم يحلم بها العدو؛ سياسياً واقتصادياً ولوجستياً وإعلامياً، لدرجة أن بعضهم أنشأ معابد لليهود في بلاده، وأقام مجسماً لما يسمى «حائط المبكى» كي يزوره اليهود الغزاة القتلة عند سياحتهم!
لقد أفسد «طوفان الأقصى» طبخة التطبيع المصنوعة كرهاً أو طوعاً، وقدم للناس الدليل على أن الغزاة اليهود القتلة لن يجنحوا للسلم ولن يقبلوا التعايش مع غيرهم، وأن الاتفاقيات التي يوقعونها مجرد هدنة مؤقتة، يستريحون فيها ويزدادون قوة، ويستعدون للانقضاض من أجل غايتهم البعيدة؛ من النيل إلى الفرات!
إبادة شعب
لقد سقطت النخب المصطنعة التي روّجت لنفاق الصهيونية المسيحية عن حقوق الإنسان والأطفال وتحرير المرأة والتعاون الدولي واستقلال الشعوب وحقها في الدفاع عن نفسها، وفي الوقت نفسه تعمل على الاستغلال ونهب الثروات ومحاربة العقائد وسلب الحريات واسترقاق النساء والأطفال بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ودعم الغزاة اليهود وتأييد مذابحهم وذرف الدموع من أجلهم وتشجيعهم على القتل والتدمير والتخريب، ومنع الوقود والطعام والدواء والعلاج وقصف المستشفيات، وإبادة شعب بريء مظلوم.
سعار محموم
لم تدر النخب المصطنعة التي ازداد سعارها بعد مباغتة العدو، وإثبات أن العقيدة لا تقاوَم إلا بالعقيدة، أن المقاومة جعلت عدداً ليس بالهين من الغزاة يراجعون أنفسهم، ويرحلون بغير عودة من فلسطين المحتلة، وبعضهم سمّى السفاح نتنياهو بـ«مهندس دمار»، ولم يخافت بالإعلان أن الكيان الصهيوني عنصري إرهابي دموي، ولعل الإرهابي ابن الإرهابي ميكو ماتيتياهو بيليد الذي كان مقاتلاً متميزاً من النخبة العسكرية الصهيونية، ترك الجيش الصهيوني وأصبح داعية سلام، ومن أقوى المناهضين لبقاء الكيان الصهيوني، وأشد المنتقدين لوحشية جيشه، ويرى، كما نقلت «رويترز»، أن الحل الوحيد للقضية فلسطين محرّرة من الماء للماء؛ أي من النهر إلى البحر، أو من الميّ للميّ، كما ينطقها الفلسطينيون!
الشهداء أحياء
إن هذه النخب ترفع أعداد الشهداء والمصابين الذين قاربوا 40 ألفاً لتدين المقاومة، وتناسوا أن أمريكا قتلت في فيتنام أكثر من نصف مليون، وأكثر من مليوني مسلم في العراق وأفغانستان، ولكنها بالمقاومة الباسلة للشعوب خرجت تجر أذيال الهزيمة والعار، وهو ما سيحدث في فلسطين إن شاء الله؛ (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ {169} فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {170} يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ {171} الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ {172} الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ {173} فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ {174} إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (آل عمران).
إبادة غزة أعادت الشعوب الإسلامية إلى قراءة التاريخ من جديد، وخاصة تاريخ الحروب الصليبية حيث يعيد التاريخ نفسه، وإن كان رجال النخب في بلاد الإسلام سادرين في الغيّ يعمهون!