قبل عملية «طوفان الأقصى»، في 7 أكتوبر 2023م، سرت في الجسد العربي والإسلامي ما يمكن تسميته «روح انهزامية»، وحالة من التسليم بالركون إلى الأمر الواقع، الذي هو أشبه بالانبطاح والاستسلام بأن الأمة العربية والإسلامية ماتت، وعلا شأن أعدائهما علواً كبيراً.
حتى حركة المقاومة الإسلامية (حماس) سعت لإيصال هذا الشعور (الانهزامي) للاحتلال، كنوع من الخداع قبل الهجوم، حتى إن استخبارات العدو الصهيونية أبلغت حكومة «تل أبيب» أن الحركة لن تحارب واستسلمت للواقع، ولا يهمها سوى حكم غزة.
واعترفت استخبارات العدو، بحسب صحف «إسرائيل»، أن «حماس» خدعتهم بهذا التصور، حتى أخذتهم بـ«طوفان الأقصى» على حين غرّة، وفرضت واقعاً جديداً قد يسرع «لعنة العقد الثامن»؛ أي زوال مملكة اليهود، التي انهارت مرتين تاريخياً قبل أن تبلغا عمر 80 عاماً.
استطاعت المقاومة الفلسطينية اختراق الصورة النمطية المغروزة في وعي الشعوب العربية والإسلامية بشأن الاستسلام أمام قوة «إسرائيل»، وأظهرت دولة الاحتلال كنمر من ورق، يهرب جنوده خوفاً ويعلو وجوههم معالم الخوف والرعب، بينما كان يجري انتزاع بعضهم من دباباتهم وسحبهم كالخرق البالية أمام مرأى العالم.
أظهرت أن بضع كتائب من الشباب الفلسطيني المخلصين لقضية الأمة وغالبيتهم من حفظة القرآن الكريم، يصنعون سلاحهم بأنفسهم، نجحوا في اختراق دولة الاحتلال بوسائل بسيطة مثل الطائرات الشراعية والدراجات النارية، وقليل من العربات المتهالكة!
أدى هذا الانتصار الرائع، الذي حاول المحتل التغطية عليه بمجازر إبادة جماعية ودمار، لتدفق الدماء مجدداً في عروق الشعوب والدول العربية المتيبسة بفعل سنوات الخنوع لمقولة: إن «إسرائيل» باتت أمراً واقعاً ويجب التطبيع معها، وأعادت آمال نهوض الأمة مجدداً كلها.
أمل النهوض
جاء انتصار المقاومة الفلسطينية أشبه ما يكون بالبشرى التي بشر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة حين قال: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»، بعدما أصابها الوهن.
ولأنه انتصار نادر وغير عادي، على قوة محتلة تمثل عصارة وخلاصة ما جمعه الغرب من قوة لقمع الشعوب العربية والإسلامية في فلسطين، لتصبح خنجراً يمنع الأمة من النهوض، كان رد فعل الشعوب أيضاً غير عادي.
تدفقت الحشود العربية والإسلامية لتملأ الشوارع والطرقات، في غالبية العواصم الإسلامية والعربية، نصرة للشعب الفلسطيني وتضامناً معه، ولم تبق دولة إسلامية إلا وخرج أبناؤها لنصرة الفلسطينيين، وتوحدت شعاراتها.
كانت الرسائل التي أوصلتها الحشود العربية والإسلامية تدور حول دعم «حماس» والمقاومة ورفض التطبيع، وأن لا حل لتحرير أراضي الأمة المغتصبة على أيدي العصابات الصهيونية، إلا بالقوة والاعتماد على النفس وموارد الأمة.
كانت الهتافات والشعارات في المظاهرات التي خرجت في الدول العربية والإسلامية شبه موحدة، في دعمها للمقاومة الفلسطينية ورفض مخطط العدو وأمريكا لتهجير الفلسطينيين من أرضهم، ومقاطعة داعمي الاحتلال.
لم يقتصر تحرك الشعوب على الدول العربية والإسلامية، بل كانت الحشود والاحتجاجات في دول الغرب من مؤيدي القضية الفلسطينية والحقوق العربية والإسلامية أكثر دهشة، وأقوى من نظيرتها بالعالمين العربي والإسلامي!
ما ميز الحشود في العالمين العربي والإسلامي أن من خرجوا هم أجيال شابة لم تعرف تاريخ القضية الفلسطينية بفعل التغييب الإعلامي ونشر ثقافة التطبيع، فكانوا أكثر حماساً وأكثر إبداعاً في أفكار التضامن ضد إبادة غزة، مستخدمين وسائل التكنولوجيا الحديثة.
أما الحشود في أمريكا -التي دعمت «إسرائيل» بصورة عدوانية- ودول الغرب كلها، فكانت مفاجئة، ليس في عدد من خرجوا، ولكن من أصبحوا أكثر وعياً ورفضاً للروايات الصهيونية والأكاذيب التي جرى ترويجها منذ سنوات عن «الإرهاب» العربي والإسلامي.
هؤلاء الذين تظاهروا في الغرب لم يكتفوا بالمطالبة بوقف العدوان والإبادة في غزة ولا معاقبة «إسرائيل»، ولكنهم رفعوا شعارات تعتبرها «إسرائيل» وحكومات الغرب «لا سامية»، مثل شعار «من النهر للبحر» الذي يعني إنشاء دولة فلسطينية خالصة وزوال «إسرائيل»!
وكانت مظاهرات يهود أمريكيين ضد «إسرائيل» والدعم الأمريكي غير المشروط لها، غالبيتهم من منظمة «الصوت اليهودي من أجل السلام»، ومنظمة «إف نوت ناو»، مفاجأة لأنها كانت الأكثر تأثيراً حين رفعوا شعارات «ليس باسمنا»؛ أي لا تقتلوا الفلسطينيين باسمنا كيهود منتقدين عنصرية الدولة الصهيونية.
بل صنعت حرب غزة آلافاً من المؤمنين في الغرب بفكر المقاومة، وأن المقاومة ليست إرهابية كما يحاولون تصويرها، وإنما هي حركة تحرر وطني لأراضي شعبها.
بل وصل الأمر في أمريكا لتداول خطبة قديمة لمؤسس تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن حول عدم عدالة النظام العالمي، وأن أمريكا سبب المشكلات والإرهاب في العالم لدعمها «إسرائيل».
توحدت ربما لأول مرة الشعوب العربية والإسلامية وشعوب آسيا وأفريقيا والغرب في التضامن مع «حماس» ونفي صفة الإرهاب عن حركات المقاومة الفلسطينية، والتأكيد على حقها في مقاومة الاحتلال، وتحرير أرضها، والدفاع عن شعبها.
توحدوا جميعاً في مواجهة حكومات الغرب خاصة أمريكا وأوروبا التي قدمت دعماً غير مسبوق للدولة الصهيونية؛ تمثل في أسلحة فتاكة ضد شعب أعزل ومقاومة وطنية لا تملك سوى ما صنعته بيدها من سلاح محلي.
توحدوا في المطالبة بمحاسبة ومحاكمة القتلة وفقاً للقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، وفي الوقت ذاته، إظهار كفرهم بالعدالة الدولية ونظام الأمم المتحدة الحالي العاجز عن نجدة مستشفيات تتعرض للقصف والاقتحام وقتل المرضى.
توحدوا في محاربة الانهيار الأخلاقي والإنساني الذي أظهره الغرب والمنظمات العالمية وهم يقفون متفرجين أمام إبادة جماعية تحدث لشعب أعزل تم منع الماء والطعام والدواء والوقود عنه.
وفي رفضها لمهزلة الشرعية الدولية التي تراوغ في حل قضية الشعب الفلسطيني، وفي رفضها لاتفاقيات التطبيع الفلسطيني الهزلية مع الكيان الصهيوني، التي لم تجلب للشعب الفلسطيني سوى التشظّي والانقسامات والمآسي.
بينما يبحث الاحتلال عن صورة للنصر لحفظ ماء وجهه بهدم مساجد ومدارس ومنازل ورفع العلم الصهيوني فوق مستشفى الشفاء كأنه علم الإبادة!
توحدوا في رفض إذلال الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والإسلامية بواسطة نظام دولي فاسد بُني على أنقاض الحرب العالمية الثانية، ينتصر للمعتدي والقاتل ولا ينصر المظلوم والمقتول، ويتفنن بـ«الفيتو» في منع إدانة الصهاينة وتعطيل ما يسمى «قرارات الشرعية الدولية».
وفي رفض الازدواجية الدولية التي تتعامل بها الولايات المتحدة والدول الغربية مع القضية الفلسطينية، وقضايا العرب والمسلمين عموماً، لحد قيام أنظمة أوروبية بسن قوانين لعقاب من يتضامن مع غزة، وفصل شركات أمريكية لمن يتعاطفون مع ضحايا الإبادة الصهيونية في غزة!
لقد فضحت المقاومة الفلسطينية كل هؤلاء، الذين يديرون نظاماً دولياً عفناً مضى عليه الزمان، سعى لترسيخ الظلم والقهر للشعوب العربية والإسلامية، حين أسقطت دولة الاحتلال في وحل الإذلال يوم 7 أكتوبر، وفتحت الباب للأمل ونهوض الأمة.