إنه يصرخ ويصرخ، يعلو صوته بالبكاء تارة ويخفت أخرى، ومع كل صرخة ينتفض جسده الضعيف المنهك، فإذا ما أجهده البكاء تحول إلى أنين مكتوم وكأنه يشكو حاله إلى الله مستنجداً به طالباً منه الغوث والعون والنجاة.
أين أمي.. أريد أمي.. أريد حضنها الحنون الذي يشبعني حُباً، ويرويني حناناً وعطفاً؟ إني جائع.. خائف.. أرتعش برداً ولا أجد حضن أمي ليدفئني.. يرتجف قلبي كلما سمعت تلك الأصوات العالية التي تهز كل عرق في جسمي الصغير فلا أجد أمي لتضمني وتهدّئ من روعي.. أرى أناساً من حولي يجرون هنا وهناك ولا أرى فيهم أمي.. أشم رائحة الدخان والحرائق وأنا على سريري بالمشفى لا أستطيع الحراك فأكاد أختنق، وأسمع بكاء الأطفال وصراخهم وهم يتألمون فأتذكر ألمي بدون أمي.. فأين أمي؟!
المولود
إن بطل حكايتنا هذه هو هذا المولود، تلك المعجزة الربانية العظيمة التي يقف المرء أمامها مذهولاً! يلفه فرح غامر مع هذا الذهول وهو يستقبل قطعة من جسده، بل فلذة كبده الذي انتظره تسعة أشهر تقل أو تزيد، وها هو قد خرج إلى الحياة الدنيا ودخل فيها ليصبح في عالم مختلف عما كان فيه وهو في بطن أمه، فمِن بين ظلماتٍ ثلاث قد أحاطت به شهوراً، انبثق النور وظهر له بفضل الله! ومِن بعد ضيق الرحم الذي كان له قراراً مكيناً لا حول له فيه ولا قوة خرج إلى السعة بقدرة الله الخالق العظيم!
وكأن هذا الوليد يحمل رسالة إلى كل مَن يراه ليسبح بحمد الله، ويستبشر بفرجه القريب، ويستشعر نعمته العظيمة ورحمته التي لا ممسك لها، فإن الظلام لا بد وأن يمحوه النور والضياء، وإن الضيق يذهبه الله ويبدله متى شاء، وأينما كان العسر فإن اليُسر يتبعه، وقد قال الله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً {5} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الشرح).
الأم
ها هي الأم الوالدة تنظر إلى مولودها وقد وضعته فأذهبت دموع فرحها به دموع الألم الذي أحاط بها أثناء ولادته، إنها تبتسم له فرحة مسرورة، وقد كانت من لحظات قليلة تتوجع وتئن من شدة الألم، لكنها مع ألمها ذاك كانت لا تفتأ تدعو الله وترجوه وتتوسل إليه باسمه الخالق العظيم، الرؤوف الرحيم، أن يرأف بها وبمولودها، وأن يَخرج كلاهما من هذه المحنة بأمن وسلام.
وها قد استجاب الله تعالى دعاءها، وكانت المنحة لها مِن بعد المحنة، فرحاً وسروراً من بعد الألم والوجع، وفرجاً كبيراً من بعد الصبر شهوراً عدة، وهِبة غالية ثمينة وجب استقبالها وقبولها بأحسن القبول.
أما مولودها فقد نال من المنحة جانباً كبيراً هو الآخر؛ نوراً من بعد الظلمة، وسعة من بعد الضيق، وحضناً دافئاً من أول لحظة، ورزقاً مخبوءاً لا يطلع عليه إلا الله سبحانه، وها هو الآن بين يديها وفي حضنها ينعم كلاهما بمشاعر الأمومة الدافئة.
تبارك الله أحسن الخالقين
وبقدوم المولود يتوافد المهنئون وتلوح البشائر في تبريكاتهم الطيبة وفرحتهم الظاهرة بمولده، ويا لها من فرحة! إنها لحظات جميلة وسعيدة يمر بها هذان الزوجان وقد ازدانت أسرتهما بهذا البرعم الصغير.
ها هي الأم قد حملت مولودها في حضنها الحنون، وقد جلس الوالد بجانبها وهما يتأملانه معاً ويتعجبان من قدرة الله في خلق هذا المولود الصغير وقد كان بالأمس القريب نطفة من ماء مهين، تعافها النفس لو وقعت في يد أحد منهما، وكيف تجلت قدرة الله العظيم حتى صوَّره بشراً سوياً في أحسن تقويم، إنه شعور رائع لا يوصف يترجمه حوار المودة بين هذين الزوجين، ويُظهره حديث الفرحة ونظرة الأمل المتجدد مع مولده.
إنه يشبهني أنا! لا بل يشبهني أنا.. كلا.. إنه يشبهنا معاً.. انظر إلى وجهه الجميل، إن عينيه مثل عيني، وأنفه يشبه أنفك، انظر إلى شعره! إنه نفس لون شعرك.. يا له من مولود جميل! سبحان مَن خلقه وصوره! وسبحان مَن شق سمعه وبصره وجعله بهذا الجمال! تبارك الله أحسن الخالقين!
يصيح المولود رافعاً صوته بنغمات بكائه المحبب وكأنه يدعوهما لينظرا إليه فيزدادا شكراً لله المنعم.
وتتوالى التهاني والتبريكات للوالد والوالدة من الأهل والأحباب، والأصدقاء والجيران: «بارك الله لكما في الموهوب لكما، وشكرتما الواهب، وبلغ أشده، ورزقتما بره».
وفي لمح البصر ووسط التهاني من المحبين واحتفاء الأسرة بمولودها الجميل، تتعالى أصوات الغدر لتصم الآذان، وتشتعل نار العداوة لتحرق السعادة، وتحلق طائرات الإبادة لتدك البيت على مَن فيه وتجعل منه كومة من التراب يرتوي بدمائهم، ومن بين الأنقاض يعلو صوت المولود دونهم جميعاً، وسبحان الله الذي أخرجه من بينها كما أخرجه قبل من رحم أمه، وكأنه يولد للمرة الثانية من جديد، لكنه وُلد هذه المرة بلا أم أو أب أو أسرة!
أين حق المولود؟
أليس من حق هذا المولود الضعيف الذي أطل بوجهه البريء على هذه الحياة الدنيا أن يُحاط بالرعاية والعناية، فيعيش في جو من الأمن والأمان هادئاً هانئاً مطمئناً دون أن تُنتزع منه أمه أو يُحرم من أبيه وأسرته؟ لكن ما بال المتربصين من أعداء الحياة يتربصون به وبأمثاله من المواليد فيسلبونهم أمهاتهم وآباءهم وإخوانهم؟! ما بالهم يُحوِّلون نور الحياة الذي خرج إليه إلى ظلام مخيف وحرائق مميتة، ودخان يزكم الأنوف، وغازات سامة تقطع الأنفاس، وقنابل حارقة تأكل الأجساد! وكيف يتجرؤون أن يضيقوا عليه السعة التي أخرجه الله إليها بقدرته فيحولوها إلى سجن شائك يحيط به بلا أمٍّ ترعاه، أو أب يكفله أو بيت يؤويه؟!
لماذا يحرمونه ضرورات الحياة من طعام وشراب وهدوء وأمان هي حق له مفروض شرعاً وعقلاً وقانوناً وعرفاً، وليس فضلاً أو نافلة؟! ماذا أجرم هذا المولود ليسرقوا منه أمه ويئدوها في التراب حية؟! أتراه يعيش ويحيا أم أن روحه تتنازعها سكرات الموت هو الآخر فيوأد من جديد بعد أن أنقذه الله ونجاه؟
الأمانة المضيعة!
إن هذا المولود الصغير الذي لا يحسن الكلام ولا يقدر على التعبير عما يحتاج إليه من الغذاء واللباس والدفء والدواء هو أمانة من الله تعالى، عند والديه، وأمانة عند ولي أمره، وأمانة عند المجتمع الصغير الذي يضمه، كما أنه أمانة عند المجتمع الدولي الذي يجب أن يدافع عن حقه وهو يراه يفقد أدنى مقومات الحياة والعيش الآمن، والدنيا تسمع ذلك وتشهد؟!
وإن الحياة التي وهبها الله تعالى للمولود لا يجوز لأحد مهما كان شأنه ومكانه أن ينازعه فيها ويسلبه إياها فيحكم عليه بالموت قتلاً أو جوعاً أو عطشاً، أو تهجيراً وتشريداً، ووأداً وإبادة، والخَلق يرون ذلك ويشهدون؟!
أليس من حق المولود أن ينعم بالعيش في بيته وموطنه آمناً مطمئناً مع أمه وأسرته، بعيداً عن النزاعات والحروب وما ينتج عنها من اليُتم المبكر، والتشويه والإعاقة الجسدية والأمراض النفسية؟!
غير أن كثيراً من المواليد في هذه الأيام قد اغتُصبت حقوقهم كما اغتُصبت أرضهم، لا يؤبَه لصراخهم، يوأد منهم من يوأد قتلاً أو جوعاً كما حصل ويحصل مع المواليد الأبرياء في أرض غزة، بغير ذنب جَنَوْه.
أليس من حق كل مولود أن يعيش بسلام، ويرضع باطمئنان، وينعم بحضن أمه الدافئ لا أن يصرخ باحثاً عنها.. أين أمي.. أين أمي؟!