1- ورد في الأثر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ فطوبي للغرباء) [1]
وأن ذلك حق لا ريب فيه، نراه بأعيننا بين من نشاهده من المسلمين الذين يلاقوننا، وبين من نعرفه من غيرهم في الأقاليم التي تقاربنا، ومن يصل إلينا بالأخبار المتواترة عمن يباعدوننا.
فالأحكام الإسلامية في أي بلد إسلامي غريبة، إذا ذكروا بها استغربوا أن نذكر لهم حقائقها، ونعرف لهم مبادئها، وإذا قلت لهم: إن المؤمنين إخوة عجبوا من ذلك، وكيف يكون منهم من يعتنق آراء منحرفة يدعون إليها، ويتهمون من ينكرها.
وإذا قلت لهم: إن محمداً صلى الله تعالى عليه وسلم هو الذي نادى بها مبلغاً عن ربه، استجابة لقوله تعالت كلماته: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (المائدة:67)، أجابوك آثمين: كيف تطبق علينا مبادئ قررت منذ أربعة عشر قرناً، وأنه يجب تطوير الإسلام ليأتلف مع مبادئ العصر ومقرراته!
فإن قلت لهم: إن أهل العصر يجب أن يخضعوا لأحكامه لأنه حاكم لا محكوم، ولأنه شريعة الله وحكمه، وهو خير الحاكمين، قالوا: أنت رجعي، ترجع بالإنسانية أربعة عشر قرناً، (ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ ۖ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (الأحزاب:4)، ذلك أنهم حكمتهم الأهواء وسيرتهم الشهوات، وفقدوا المعاني الإنسانية، وتحكمت المادة فيهم، وأنهم يستمدون منطقهم من حكمها، ودليلهم من سلطانها، وسيطرتهم من آثامها، يبررون كل فجور ما دام يصدر عن دولة قوية أو قوم أقوياء بالمادة.
2- سيطرت هذه الحال حتى ضن القدح الزند بقدحه، واستخفت الحقائق باستخفاء من ينطق بها إذ صار من يقولها في هذا الشر ينطق بها على خوف، أو يحجم بها على استحياء، يخشى الملامة أو التشنيع به، ووجد من ينطق بالباطل وإن تسربل سربال الإسلام ولبس مسوح العلماء، وزعم فيمن يصفقون لقوله أنه يتكلم باسم الدين، وأنه يقول الحق، والسامعون له من أصحاب الهوى يشيدون بذكره، ويرددون اسمه على أنه عالم مجدد وأنه نافذ البصيرة مدرك حتى اضطربت الأفهام، وضاعت الحقائق في ديجور من الضلال، وحتى صح لنا أن نقول: إن العلم انتزع من صدور العلماء كما روي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إذ قال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)[2].
هذه حال العلماء الذين تصدوا للقول، ومكنوا من المنابر العامة في بعض البلاد، ونالوا التقدير ممن مكنوهم، ومن دفعوهم!
ومن الظلم للعلم أن نقول: إن كل العلماء في البلاد العربية أو بعضها على هذه الشاكلة بل كان في مقابلهم من لا يوافقونهم، ولا يدرجون في مدارجهم، ولكنهم صامتون مكتفون بالاستنكار الباطني، ومنهم من يجاهرون في المجالس الخاصة بالاستنكار، ومنهم من يجمجم بالقول ولا يجهر خشية أن تلوكه الألسنة بالقول، وأن يذهب فيه أهل النفاق مذاهبهم بالدس، والافتراء، ثم أهل الصنف الأول يحرضون عليهم من غير حريجة دينية، ولا تأثم خلقي. وبذلك لا يتحقق وصف الله للمؤمنين الذين ادخرهم لكلمة الحق في حال الردة المبكرة والضعف المستمكن، إذ يقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ. وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (المائدة:54-56).
وإذا كانت الآية لا تنطبق واضحة في أيامنا، فإنها ستنطبق لا محالة وسيتحقق وعد الله، لأن وعد الله حق، وأن الله لا يخلف الميعاد، وعندئذ نتذكر قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: (الخير في وفي أمتي إلى يوم القيامة) [3]
وأن الخير كامن بهذا الحديث في المؤمنين، فلابد أن يكون من بينهم من ينطق بالحق إذا حان حينه وجاء إبانه، فلكل أجل كتاب.
وإن العبر كافية، لأن نعتبر، والأحوال سانحة، لأن تنتهز، وأن فتح الله قريب إن شاء الله.
كل نعمة تحمل تكليفا
3- واجهة الغمة الآن مستحكمة من أنفسنا، ولكنها ستنكشف، وأن الشعوب الإسلامية يجب أن تستيقظ وأنها إذا استيقظت، وابتعدت عن الغي المسير لأهل الترف فستزيل العوائق وتذلل طريق الحق وتعبده، ويسير فيه أهل الدين لا يرجون إلا ما عند الله، ولا يصح لنا أن نيأس من رحمة الله فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
وإن الله تعالى يبتلي الناس ليعلم الذين يجاهدون والصابرين، فالشدائد تصقل النفوس، وتكشف زيفها، وقد وعد الله تعالى بالنصر بعد الابتلاء الشديد، كما قال سبحانه: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة:214).
إذا كان قد حق فينا أمر الله، فاختبرنا بأهل الترف والفساد منا، فإنه سن لنا
الطريق لأن نشحذ العزائم ونجمع الجهود، ونقرع النفوس عن شهواتها، ونردها عن غيها، ونعالج أنفسنا من أدوائها، وأنه إذا أحس المريض بعظم الداء عالج نفسه بأنجع الدواء وإذا علمنا مصدر دائنا سيبدو السبيل أمامنا، والله تعالى يشير إلينا بأدواء الجماعات، وإذا علم مصدر الداء، فالابتعاد عنه سهل إذا صدقت العزيمة، وقوي الإيمان، اقرأ قوله تعالى وهو أصدق القائلين: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (النحل:112).
وإن أشد الكفر بأنعم الله أن يصرفها في أهوائه وشهواته، فكل نعمة تحمل تكليفاً، وكل منحة من منح الله توجب شكراً، وكل عطاء من الله تعالى يستوجب طاعة.
اختبار النصر
نحن معشر المسلمين الآن في أشد أدوار الاختبار بالنعم والنقم، والنعم اختبار عظيم يحتاج إلى الصبر والقيام بحقها، فمن أدرك حقها زاده الله تعالى منها. وأن الصبر في النعم يحتاج إلى جهد لا يقل عن الصبر في النقم، ولقد قرر الله سبحانه وتعالى ذلك في قوله تعالت كلماته: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ. وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي ۚ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ. إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (هود:9-11)
وإن الله تعالى اختبرنا وفرَّق جمعنا، واختلفنا في أمرنا، وصار بأسنا بيننا شديداً، وما انعقد لنا جمع إلا كان سبباً من أسباب الافتراق، أو كان مظهراً
من مظاهره، وما أردنا أن نتلاقى إلا اتسعت الهوة واشتد الافتراق، ولا تصاب الأمم بداء أشد من داء الافتراق.
يقع ذلك، والقرآن ينادينا بنوره السرمدي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ. وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:102-104)
وإن هذه الآية الكريمة ترينا طريق إعادة الحق إلى مكانه، وإزالة الغربة التي صار إليها الإسلام، حتى كان المنحرفون ما لا يعرفونه، وغير المنحرفين لا يذكرونه، ومن يذكره لا يصدع بالحق، ولا يشق للناس طريق النور، وأول هذه الطريق، ومبتدؤها أن نتقي الله حق تقاته، وأن نذكر الله في مشهدنا، وفي غيبنا، وفي سرنا وجهرنا، وأن نكون كما قال عليه السلام نحب الشيء لا نحبه إلا الله ، فلا نحب إلا لله ، ولا نغضب إلا لله، وأن نبعد دواعي الشر في أنفسنا، وأن نجعل أهواءنا تبعاً لما جاء به نبينا عليه السلام، كما قال وهو الصادق الأمين: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)[4]، أي يخضع نزعات نفسه لأوامر الله تعالى ونواهيه، ولا يجعل أحكام الله تعالى تابعة لما يرغب، فيوطئها لما يشتهي، ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى.
النقطة الثانية من طريق الله وخطه المستقيم أن نعتصم بحبل الله تعالى، وهو كتاب الله تعالى، فهو المعتصم، وهو الملجأ عندما تضطرب الأمور، وتختبط بالظلمات والأهواء والشهوات، وهو حبل الله تعالى النوري الممتد إلى يوم القيامة.
النهي عن المنكر ميزة المجتمعات الفاضلة
ولن يتألف جمعنا، ويتحقق اتحادنا وهو قوتنا، وهو ذريعتنا إلى الخير إلا إذا اجتمعنا حول القرآن نرتله ترتيلاً، ونتذكر به ونعيه، وننفذ أحكامه كاملة غير منقوصة، فإنا إن فعلنا اجتمعنا على تقوى من الله تعالى ورضوان، وإلا كان النزاع والافتراق، ومع الافتراق الفشل، وقد قال الله تعالى، وهو أصدق القائلين: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ. وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (الأنفال:46-47)
والنقطة الثالثة من خط الله وصراطه، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتلك خاصة الإسلام إن قامت على وجهها، وسهل الطريق للقيام بها، ولم توضع عقبات دونها، ولم يكن الحق معرضاً صاحبه للعتاب أو العقاب، أو الإبعاد.
ويقول المفسرون في معنى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104)، لتكونوا أمة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف، وتكون بيانية كما يقول اللغويون، ويكون هذا النص السامي، متلاقياً في معناه مع قوله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران:110)
وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو ميزة المجتمعات الفاضلة، ومجتمع الإسلام مجتمع فاضل قد دعا إلى الفضيلة وحث عليها، ولذلك شدد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واعتبره خاصة الإسلام، فلما تقاصرت الهمم وأهمل المعروف وتُرك من غير ملامة فسدت الأخلاق، وجانبت الإسلام، واغتربت حقائقه، وأخفت مبادئه، وذهبت الفضيلة، واستعلت الرذيلة، وشاعت الفاحشة في الذين آمنوا، أو أسلموا، وشربت الخمور، فإن حرمت في بعض المجتمعات، كان التحايل عليها، لأن القلوب أقفرت والنفوس كفرت بأمر ربها، فكان الإسلام غريباً، فهل للغريب أن يتوب، والبعيد أن يقرب، وللإرادة الدينية أن تسيطر على النفوس والجماعات، إِنّ غَداً لنَاظِرِهِ قَرِيبُ [5]
[1] – صحيح مسلم – رقم: 145 – خلاصة حكم المحدث: صحيح
[2] – رواه البخاري – تحت رقم: 100 ومسلم تحت رقم:2673 باختلاف يسير
[3] – لا نعلم حديثًا بهذا اللفظ، ولكن المعنى صحيح؛ لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، ولما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق”
[4] – أخرجه ابن أبي عاصم في (السنة) (15)، والخطيب في (تاريخ بغداد) (4/368) واللفظ لهما.
[5] – تم نشر هذا المقال في العدد: 5 – بتاريخ: 8-2-1390هـ – 14-4-1970م.