كاتبة المدونة: يمينة عبدالي (*)
قال رَسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: «إذَا رَأَيْتُمُ المَدَّاحِينَ، فَاحْثُوا في وُجُوهِهِمِ التُّرَابَ» (رواه مسلم)، فقَوْلُهُ حقٌ، وليس الحق مُتلبساً بشبهة، وإنما تفويض وتوقيع عن رب العالمين، لتحقيق المقاصد والتكاليف، والذود عن الحِمَى.
فحديث النبي صلى الله عليه وسلم يجمع مقاصد شتى، فجعله صادًا يسد به المفاسد التي لا تبلغك المآرب، ولا يَنْفَعُكَ فيها لحن اللسان، حيث يُلْبِسُ ما كان حقًا باطلًا، فجعل لذلك موعدًا، وردّ السحر لساحره افتراءً وكذبًا، فحثه بحثو التراب في وجوه المداحين لبالغ الأثر في النفوس، ومنه بيان من تلك النفوس، فذاك المتطاول المبالغ عن حد المدح يُحَمِّلُ لسانه أوزار غيره؛ فلا هو مهتدٍ، ولا من جالسه سَلِمَ قلبه في تلك اللحظة، وكأنك ترى محشر المبصر أعمى؛ (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً) (طه: 125)، فمثله كمثل من شهد النورَ ثم شهد العمى، فقد كان في سبيله إلى أن لقي مدّاحًا فأخرجه من حول الله إلى حوله، فكيف إن كان ظالمًا أو متجبرًا؛ (حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) (الأنبياء: 98)، فإن كانت عادة الشيطان الوسوسة؛ فعادة المدّاح تربصٌ بالإخلاص، فكيف إن كان الإخلاص في ذاته يتفلت من صاحبه في مسيرة النّيات وما يصاحبها من أفعال، فهو في كل الأحوال لا يخرج عن المسارين؛ الأول: إن كان له نصيب من قول المدّاح فقد مال قلبه، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن رب العزة: «مَن عَمِلَ عَمَلًا أشْرَكَ فيه مَعِي غيرِي، تَرَكْتُهُ وشِرْكَهُ»، فهو حينئذ هوى فقد أخلف وعدًا ونقض عهدًا.
وأما الثاني: فإن لم يكن له في قوله نصيب فرحّب بالحمول، ورفع له العماد، فذلك طريق للباطل وما شأن من رضي عن نفسه ما ليس فيه، فيصدق عليه «وَمَنْ ادَّعَى قَوْمًا لَيْسَ لَهُ فِيهِمْ نَسَبٌ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ».
فتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم بأن يحثوا التراب في وجه المدّاح، ولم يكتف بالنثر أو التغبير بالتراب وكأنه يرمي إلى صبّ التّراب صّبًا كمن «يَحْثُو الْمَالَ حَثْيًا لَا يَعُدُّهُ عَدَدًا»، هذا من مقاصد الحثو، أما من مقاصد التراب فإنه منه وإليه المرجع؛ «كلُّكم بَنو آدمَ وآدمُ خُلِقَ من تُرابٍ»، وبه الطهارة حين الضرر؛ «وجُعِلَ التُّرابُ لي طَهورًا».
ألم تكن شكوى الإنسان بما هو متألم، أو من به جرح أو قرحة أن له في التراب دواء ورقية: «بِسمِ اللهِ، تُرْبَةُ أرْضِنَا، بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، يُشْفَى بِهِ سَقِيمُنَا، بإذْنِ رَبِّنَا»، فمن كان مغشيًا عليه يفيق، ومن كان أعمى يبصر بإذن ربه، باستحضار من منح النظر من بين يديه ومن خلفه؛ «إِنِّي لأَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي»، فقد أبصر وبصّر.
فالحثو يفيق من في قلبه المرض، ويدرأ عن صاحبه الكرب، فيتلخص المشهد: «فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرادُوا هَلكُوا جَمِيعًا، وإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِم نَجَوْا ونَجَوْا جَمِيعًا» (رواهُ البخاري).
ومن رأى من وراء المدح فائدة مرجوة أو تحقيق لمصلحة، أو إغاظة عدو: «جاهِدوا المُشركينَ بأَموالِكُم وأَنفُسِكُم وأَلسِنَتِكُم» (رواه الحاكم في المستدرك) وإليه امتثل حسان في قوله: «لَأَسُلَّنَّكَ منهمْ كما تُسَلُّ الشَّعَرَةُ مِنَ العَجِينِ»، فقال:
وإنَّ سَنامَ المجْدِ من آلِ هاشِمٍ بنو بنتِ مخزومٍ ووالِدُك العَبدُ
فما كان الله تعالى أن يكلف عبده بما لا يطيق، ولا كان رسوله في دين ربه إلا داعيًا للفطرة السليمة، وإلى كل طريق يؤدي إلى نهجها، ولما كان حب المدح والتمادح في غير مبالغة فطرة قال: «مَن كان مِنكم مادِحًا أخاهُ لا مَحالةَ، فلْيَقُلْ: أحْسِبُ فُلانًا، واللهُ حَسِيبُه، ولا أُزَكِّي على اللهِ أحدًا، أحْسِبُه كذا وكذا، إنْ كان يَعلَمُ ذلكَ منه» (مُتَّفقٌ عليه).
_____________________________
(*) باحثة ماجستير في التفسير والقراءات القرآنية، جامعة كربوك– تركيا.