كاتب المدونة: عز العرب سلمان
شاهدتُ البارحة حلقة من حلقات مسلسل «قمر بني هاشم»، وكانت الحلقة تروي قصة العاص بن الربيع مع زوجه بنت رسول الله ﷺ، السيدة زينب رضي الله عنها.
إنّ في أحداث هذه القصة مواقف كثيرة تصلح لاستخلاص العبرة، من لحظة استيلاء المسلمين على القافلة التي يقودها ابن الربيع، وفراره منهم، ثم قدومه على زينب مستجيراً، وعرضُ النبي ﷺ أمر جيرة زينب رضي الله عنها على المسلمين، وتخييرهم في رد القافلة على ابن الربيع أو الإبقاء عليها عندهم؛ فهي حق لهم قد أفاءه الله به عليهم، فاختاروا ردها كلها ولم يُبقوا منها عقال بعير.
وقبل ذلك كله، قصة العاص يوم أُسر في «بدر» فافتدته زوجه بقلادة كانت قد أدخلتها أمها خديجة رضي الله عنها بها على زوجها، فرقّ النبي ﷺ لذلك وعرض على المسلمين رد أسير ابنته مع قلادتها، فقبل المسلمون إكراماً له ﷺ، وخلا رسول الله ﷺ بالعاص وتعاهدا على أن يرد العاص زينب إلى أبيها في المدينة؛ لأن المشرك والمسلمة لا يُجمع بينهما في بيت واحد، ثم قفل العاص راجعاً إلى مكة وأرسل زينب لأبيها موفياً بوعده للنبي ﷺ.
كل هذه الأحداث فيها للمتأمِّلِ ما يَنفطِرُ منه القَلْبُ وتَتَغَرْغَرُ منه العَيْنُ بالدَّمْعِ، والذي استوقفني من تلك الحلقة -رغم أنَّهَا حَوَّتْ جزءًا يسيرًا من تفاصيل وروائع القصة- ردُّ العَاص بْنِ الرَّبِيْعِ على أحدِ الصَّحابةِ بَعْدَ أَنْ أَدّى الأمانات والودائِعِ ثُمَّ ارتحل إلى المدينة ليعلن إسلامه، حيث قال له الصَّحابي: «لو أنك احتجزت أموال أولئك الكفار لينتفع بها المسلمون»، فقال العاص مقالته: «بئس ما أبدأ به إسلامي»!
وقد قال النبي ﷺ فيه: «أنكحت أبا العاص فحدثني وصدقني».
والشاهد: قول العاص: بئس ما أبدأ به إسلامي!
فكم من مولود على الإسلام يحتاج إلى هذا الخلق مع تغيير يسير في الصياغة، فنقول: «بئس ما أسيء به إلى إسلامي»! ولكل بئسه وما بعدها التي يجدد بها إيمانه ويقوي بها إسلامه ويصلح بها نفسه وحاله، فليس ثمة حد لتلك البلايا التي ابتلينا بها في زمان قلّ فيه الناصحون وكثر فيه المجاهرون، فلزم أن يكون للمسلم رادع من نفسه يردعه عن سيئاتٍ اعتادها وسلّم بها ومالت نفسه إلى موادعتها.
فقد عمت في أوساط الناس مظاهر هي في حقيقتها من كبريات الذنوب، وكبائر المعاصي، ومن الموبقات المهلكات، وهم لا يشعرون بذلك، بل يجعلونها من بديهيات التمدن والحداثة، ومن الطبيعي أن يتعايش الناس مع هذه التحولات التي يُحدثها التعرض المباشر لمؤثرات يختلقها أناسٌ يسعون لتغييب عقول الناس بها، وسلخهم من هويتهم ومسخهم بهوية وكينونة أخرى لَا تَقُوْم لهم بها قَائِمَةٌ وَلا يستعيدون بها مجداً، فهم في انحطاط مستمر في دركات الهوانِ والتمييع.
ورغم أن من هؤلاء الناس من يعترف بخطورة التسليم بمظاهر الخلاعة وانتزاع الحياء والضمير الحي من روح الأمة، وبأن لذلك أثراً في صناعة أمة بوعي متخلف تميل للتبعية لأقوام وأمم تدعي السمو في كل شيء وهي في الحقيقة كالسارق الذي سرق من راكب الحافلة محفظته، وعندما حان دفع الأجرة ولم يجد المسروق محفظته، أصابه الاضطراب والقلق فتكرم السارق بدفع الأجرة للمسروق، ونزل صاحبنا ولسانه يلهج بعبارات الشكر لمن سرقه.
مثلنا إي والله كمثل المسروق والسارق؛ فنحن أصحاب الثروات وتاريخ من الأمجاد وتراث من العلم غزير، ركنا فوهنا، وذهب غيرنا بمالنا، يغوينا بفتات العيش، ويلهينا بزائف الأحلام، ويحُط من أقدارنا بأرذل ما عرف من أخلاق.. شيد كل تقدم له على أسس بنيانٍ نحن من شيده، بعد أن حطم ما استطاع وأزاح الركام، فنسينا أن لنا أجدادًا أقاموا الدنيا وأقعدوها، لا لأجل الإفساد في الأرض، بل لإعمارها ونشر الإسلام في ربوعها، فقد جمعوا مواد بنائهم من مشارق الأرض ومغاربها، إذ كانوا يشترون الكتب بأوزانها ذهبًا، ويعرفون لصاحب العلم فضله ومكانته، ويقدرونه حق قدره، لا ينظرون إلى لونه أو جنسه، ناسبين الفضل إلى أهله، غير ساعين لمحو كيان أمة من الأمم ما لم تقاسمهم العداء، وما لم تسع لاستئصال شأفتهم، فهم يوادعون من وادعهم، فلا يُغيبون العقول، ولا يسفهون أحلام غيرهم فيقولون كما قالت اليهود: «ليس علينا في أكل أموالهم إثمٌ ولا حرج»، يقصدون بذلك استحلال أموال العرب بالباطل.
ما كنا مثلهم، ولن نكون مثلهم.
فهل لك أيها المسلم من بئس تفك بها رقبتك من قيد الشيطان الذي يقيدك ويسوقك به كما يسوق الدابة؟!
إن العزم والحزم والجزم كلها تقصد إلى نهاية واحدة، وهي وصول إلى غاية عظمى وهدف أسمى.. فهل لنا يا مسلمين من بئس؟