يحظى فن الكاريكاتير في السياق الفلسطيني بهوية خاصة، فهو إلى جوار كونه فناً تعبيرياً ساخراً، يستخدم الرسم والكلمة لنقل رسالة أو فكرة أو موقف بطريقة مبسطة ومباشرة ومؤثرة، هو أيضاً موقف جمعي لقضية المسلمين والعرب الأولى، ولذا اصطبغ تاريخياً بما يتجاوز الإطار المحلي إلى ما يمثل الأممي، خلال العدوان الصهيوني المستمر على قطاع غزة.
فالمبدع الفلسطيني يعتبر فن الكاريكاتير أحد أشكال المقاومة الثقافية والفنية التي تسعى إلى توعية الجمهور وتنويره وتحريضه على النضال من أجل الحق والعدالة والحرية، ووظف فنه تاريخياً في دعم المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيوني والتضامن مع الشعب الفلسطيني في مختلف المراحل والمناسبات، حسبما أوردت دراسة نشرتها مجلة «العلوم الإنسانية والاجتماعية» عام 2020م.
وأوردت الدراسة تحليلاً نقدياً للرسوم الكاريكاتيرية التي تناولت القضية الفلسطينية منذ عام 1948 حتى عام 2018م، وخلصت إلى أن الفن الكاريكاتيري الفلسطيني أثبت استمرارية بين الماضي والحاضر، فكان بمثابة أداة فنية عكست الواقع وصورت الأحداث التي ما زالت متوالية على فلسطين في الوقت الحاضر.
ومن أبرز الأحداث التي عبر عنها فن الكاريكاتير الفلسطيني التهجير القسري للفلسطينيين عام 1948م، والتنكيل بهم وإبادتهم في حرب عام 1967م، وعديد الحروب على قطاع غزة تحديداً، وكذلك واقع حياة اللاجئين الفلسطينيين في الشتات والمخيمات.
فموقف الفنان الكاريكاتيري لم يكن يومًا بموقف أحادي ينطوي على ذاته، بل ظل موقفاً جمعياً يعبر عن أحقية الشعب الفلسطيني في هويته المستلبة ووطنه المحتل، وإن لم يكن الفنان نفسه فلسطينياً، ما عبرت عنه أمثلة تاريخية سامقة، من أمثال ناجي العلي، ومحمد سباعنة.
اغتيال فنان
وتعد رسومات ناجي العلي الأشهر في هذا السياق، إذ عبرت عن معاناة الشعب الفلسطيني ومقاومته وأمله في التحرير والعودة، ورسم من خلالها العلي أكثر من 10 آلاف فكرة كاريكاتيرية، نشرت في الصحف والمجلات العربية والعالمية، وأصبحت رمزاً للقضية الفلسطينية والقضايا العربية والإنسانية عبر شخصية رسوماته الفريدة «حنظلة».
وبلغ مدى تأثير العلي الآفاق العالمية إلى الحد الذي دفع جهاز الاستخبارات الخارجية الصهيوني (الموساد) إلى ممارسة حلقة جديدة من حلقات إجرامه باغتيال الفنان المقاوم في لندن عام 1987م.
وبحسب مقال نشرته مها زيادة، الباحثة الحاصلة على الماجستير في الأدب المقارن من معهد الدوحة للدراسات العليا، في يوليو الماضي، فإن الكاريكاتير في السياق الفلسطيني يخدم إحدى مهام الأدب الاجتماعية، وهي: تبني الإنسان كقضية من خلال الإبداع، ومن هنا جاء الاهتمام بدراسة الكاريكاتير كشكل من أشكال تصوير المقاومة في الواقع المعيش.
وتعتبر زيادة كاريكاتير العلي الحاضر الغائب في هذا السياق، إذ تعد رسوماته من أهم الأمثلة على تتبع الأثر الذي يمكن أن يخلفه الفن في التعبير عن قضية الوطن وبناء موقف نقدي تجاه ما يجرد الإنسان من هويته، خاصة أن أسلوبه تحول لاحقاً إلى مدرسة يتبعها عديد الفنانين.
وتتمركز أبعاد تلك المدرسة حول التصوير الكاريكاتيري للتعبير عن الموقف الرافض للكيان الصهيوني ولاحتلاله لفلسطين وما تبع ذلك من موقف رافض للتطبيع العربي معه، بحسب زيادة.
فرزات وسباعنة
ويمكن اعتبار رسومات الفنان السوري علي فرزات نتاجاً لتلك المدرسة التي تنتقد السياسات «الإسرائيلية» والأمريكية والعربية تجاه القضية الفلسطينية، وتبرز الظلم والعنف والتمييز والاستبداد الذي يتعرض له الفلسطينيون.
ونشر فرزات أكثر من 15 ألف رسمة كاريكاتيرية، وحصل على العديد من الجوائز والتكريمات الدولية، وأصبح أحد أشهر رسامي الكاريكاتير في العالم.
وعلى المنوال ذاته، يجسد الفنان الفلسطيني محمد سباعنة فن الكاريكاتير ودوره في القضية الفلسطينية، متناولاً الأحداث والمواقف الراهنة، لا سيما خلال حرب غزة، ويسلط الضوء على الانتهاكات والجرائم التي يرتكبها الاحتلال بحق الفلسطينيين.
ورسم سباعنة أكثر من 4 آلاف رسمة كاريكاتيرية، نشرت في العديد من الصحف والمواقع الإلكترونية الفلسطينية والعربية والدولية، وهو ابن مدينة جنين، أحد معاقل المقاومة في الضفة الغربية المحتلة.
وعلى الضفة الأخرى من الأراضي المحتلة عام 1967م، قطاع غزة، تجسد رسومات علاء اللقطة أحد أبرز معالم المقاومة بالفن في الحرب الدائرة حالياً، وهو صاحب فكرة تحويل صور المقاومين في مقاطع التوثيق المرئي في عمليات المقاومة الفلسطينية إلى «أيقونات فنية».
وحولت هذه الرسومات المقاومين، غير المعروفين بأسمائهم، إلى رموز كرمز «الملثم» في شخصية أبي عبيدة، الناطق العسكري باسم «كتائب عز الدين القسام» في غزة، ورمز «المقاتل الأنيق» في خان يونس، ورمز «المقاتل الطائر» من الفرحة بتدمير إحدى المدرعات الصهيونية صارخاً: «ولعت»!
ومثل هذا التمازج بين الرسم والكلمة امتداد لأسلوب العلي، بحسب زيادة، مشيرة إلى أن تلك الهوية الأسلوبية تقوم على بناء فعل تواصلي، بشقيه اللغوي والرمزي، ما بدا جلياً في الرسومات التي رافقها بنية لغوية في كاريكاتير العلي، وهو ما استدعى بناء علاقة تفاعلية بين الفنان والمشاهد، ما يجعل من الكاريكاتير خطاباً نقدياً متكاملاً بدلالات سياسية واجتماعية.