روى البخاري، ومسلم، في صحيحيهما، من حديث سهل بن سعد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللّه خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا»، وسُئل شيخ الإسلام ابن تيمية: هل الأفضل المجاورة بمكة أو بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو بالمسجد الأقصى؟ أو بثغر من الثغور لأجل الغزو؟ فأجاب: «المرابطة بالثغور أفضل من المجاورة في المساجد الثلاثة كما نص على ذلك أئمة الإسلام عامة»(1).
فإذا كان الرباط في سبيل الله من خير الأعمال عند الله، فما أهم الواجبات التي يقوم بها المرابط في سبيل الله؟
1- إخلاص النية لله تعالى:
الرباط في سبيل الله من أعظم العبادات، قال الله تعالى: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) (الزمر: 11)، فإذا نوى المرابط بمرابطته إعلاء كلمة الله والدفاع عن دينه، دون أن تخالط نيته طلب الجاه أو المغنم؛ فهو المخلص لله تعالى، ففي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذِّكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللّه هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللّه».
2- الإيمان بأن النصر من عند الله:
فلا يعتقد أن الذي يملك النصر أحدٌ غير الله؛ لأن الله تعالى يقول: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) (الأنفال: 10)، ويقول أيضاً: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران: 160).
3- الثبات والصبر عند لقاء العدو:
فإن الله تعالى أمر بذلك، في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) (الأنفال: 45)، ونهى عن التولي يوم الزحف، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ) (الأنفال: 15).
وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل التولي يوم الزحف من أكبر الكبائر(2)، وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبدالله بن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ».
4- الإكثار من ذكر الله والدعاء بالنصر:
إن الذكر معين على الثبات واستحضار معية الله تعالى، واستمطار النصر والتأييد، وقد أمر الله به عند مواجهة الأعداء، قائلاً: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الأنفال: 45)، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء عند مواجهة الأعداء، فقد دعا في غزوة «بدر»، قائلاً: «اللَّهمَّ أَنْجِزْ لي ما وَعَدْتَني..»(3)، وفي غزوة «الأحزاب»، كان يقول: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ، ومُجْرِيَ السَّحَابِ، وهَازِمَ الأحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وانْصُرْنَا عليهم»(4).
5- مداومة طاعة الله ورسوله والحذر من المعصية:
إن الطاعة سبب في النصر، حيث قال تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر: 51)، وقال عز وجل: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) (الحج: 40)، وقد أمر الله تعالى بالطاعة والبعد عن المعصية والتنازع عند مواجهة الأعداء، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ {45} وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 46).
وقد ابتُلِي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالانكسار في غزوة «أُحد» بسبب معصية بعضهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله تعالى في ذلك قوله: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 152).
6- الحرص على طاعة القائد وإمداده بالرأي مع عدم مخالفة أمره:
المرابط في سبيل الله يعلم أن طاعة قائده هي طاعة الله ورسوله، فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللّه، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللّه، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي»(5)، فإذا رأى المرابط رأياً غير الذي رآه قائده؛ فلا يركن إلى رأيه دون أن يتحدث مع قائده، بل الواجب عليه أن يعرض هذا الرأي على قائده ويشاوره فيه، فربما كانت هذه الرؤية سبباً في النصر، كما حدث في غزوة «بدر»، حين نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عند بئر بدر، فقال الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلًا أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ، وَلَا نَتَأَخَّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ: «بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ»، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلِ، فَانْهَضْ بِالنَّاسِ حَتَّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ، فَنَنْزِلَهُ، ثُمَّ نُغَوِّرُ مَا وَرَاءَهُ مِنْ الْقُلُبِ، ثُمَّ نَبْنِي عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَؤُهُ مَاءً، ثُمَّ نُقَاتِلُ الْقَوْمَ، فَنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ»، فَنَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ النَّاسِ، فَسَارَ حَتَّى إذَا أَتَى أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ نَزَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْقُلُبِ فَغُوِّرَتْ، وَبَنَى حَوْضًا عَلَى الْقَلِيبِ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ، فَمُلِئَ مَاءً، ثُمَّ قَذَفُوا فِيهِ الْآنِيَةَ(6)، فهذه مشورة من جندي لقائده، كانت سبباً في تغيير خطة القتال وتحقيق النصر.
7- الحذر من الغرور:
الغرور صفة ذميمة في العموم، وأشد ذمّا في ميادين الجهاد والرباط، إذ النصر من عند الله، والله لا يحب كل مختال فخور، كما أن الغرور لا يحقق النصر لصاحبه مهما أوتي من قوة، لأنه يستهين بقوة عدوه، ولا يبذل أقصى جهده في الجهاد والقتال، وقد أكد الله تعالى أن ما أصاب المسلمين في غزوة «حنين» من الانكسار في بداية المعركة كان بسبب الاغترار بالكثرة، وأنها لم تغن عنهم شيئاً، فقال: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) (التوبة: 25).
8- إبراز القوّة والهيبة:
إن هذا من عوامل بث الرعب والهزيمة النفسية في قلوب العدو، ولهذا كان استعراض القوة أحياناً سبب في الاستغناء عن استعمالها، كما لو أعلنت دولة عن اكتشاف أسلحة فتاكة، أو امتلاكها وتجريبها أسلحة مضادة لأسلحة العدو؛ فإن ذلك قد يكون رادعاً للعدو، أن يغامر مغامرة غير مأمونة العواقب، ومثال ذلك ما تقوم به كثير من الدول الآن بإجراء المناورات العسكرية، لاختبار جاهزيتها، وإسماع عدوها بما عندها من سلاح، وأنها موجودة، ومستعدة لكل طارئ(7)، وإن إبراز القوة والهيبة من شأنه أن يشعر العدو بأن المرابط في حالة استعداد لكل طارئ، وأنه غير غافل عن مخططات عدوه، بل مستعد لها وعازم على إفشالها.
9- الحفاظ على أرض المسلمين ودمائهم وأموالهم وحرماتهم:
شرع الجهاد من أجل الدفاع عن الدين والأرض والعرض، فعلى المرابط أن يعلم أنه مقيم على ثغر من ثغور الإسلام، وأن صموده وعزمه يحقق الانتصار لدينه والحماية لمقدساته والعزة والكرامة لكل أبناء وطنه.
10- إشعار المواطنين بالأمن والحماية:
المرابط يحرص على توفير الشعور بالأمن والطمأنينة لقومه، ولا يثير الخوف والرعب في قلوبهم، ومما يدل على هذا ما ثبت عن أنس بن مالك قال: فَزِعَ أَهْلُ المَدِينَةِ لَيْلَةً إذ سَمِعُوا صَوْتًا، فَتَلَقَّاهُمُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى فَرَسٍ لأبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ، وهو مُتَقَلِّدٌ سَيْفَهُ، فَقالَ: «لَمْ تُرَاعُوا، لَمْ تُرَاعُوا»(8)، إنه بادر مسرعاً بالخروج على فرس من غير سرج إلى مصدر الصوت، ثم عاد يبث الطمأنينة في قومه، وهذا درس لكل مرابط في سبيل الله.
إن الرباط في سبيل الله مهمة عظيمة القدر، وفيرة الأجر، تحتاج إلى عزم الرجال، وجهد الأبطال، لتحقيق الأهداف وبلوغ الآمال.
_____________________
(1) مجموع الفتاوى (24/ 27).
(2) متفق عليه.
(3) أخرجه مسلم في صحيحه (1763).
(4) أخرجه البخاري في صحيحه (3024).
(5) متفق عليه.
(6) السيرة النبوية: لابن هشام (1/ 620).
(7) الرباط في سبيل الله، د. محمد جميل المصطفى، ص 13.
(8) متفق عليه.