في الحلقة لسابقة، تحدثنا عن تربية القرآن الكريم والسُّنة النبوية بالحدث، وأن معركة «طوفان الأقصى» حدث كوني عالمي، وله من الطبيعة والحجم والأثر ما يستحق أن نستثمره على أصعدة شتى، أهمها صعيد تربية الأولاد، وقد تحدثنا عن أربعة معالم للتربية من هذا الحدث، وفي هذا الجزء الثاني والأخير من المقال نذكر 6 معالم أخرى، على النحو الآتي:
خامساً: التربية الدعوية:
تابعنا مع الأحداث ومجريات المعركة ما أحدثته من أثر دعوي كبير، بما حمل الكثيرين في أنحاء العالم على البحث عن هذا الدين والدخول فيه؛ حيث يتساءلون وهم يشاهدون ملامح الرضا ومعالم الثبات وآثار الصمود والتحدي: ما السر العجيب وراء كل هذا؟ إذا كان هذا نابعاً من دين فهذا الدين هو الدين الحق، كيف نتعرف على هذا الدين؟ ما عقيدته وما شريعته؟
وهكذا دخل كثير من الناس الإسلام، بحيث صارت غزة بدماء شهدائها، وجراحات الجرحى والمرضى، وثبات أهلها ملحمة للدعوة، ومصدراً عملياً تطبيقياً من مصادر التعرف على الإسلام، وهذا ما لا يقوم به دعاة ولا علماء، وهو من بركات الجهاد وآثاره.
إن هناك أقواماً يدخلون الإسلام بالكلمة الطيبة، وهناك من يدخلون الإسلام بالسلوك الحسن، وهناك أناس لا يدخلون الإسلام إلا برؤية هذا الرضا وذاك الثبات وتجليات روح التحدي والصمود والرغبة في المقاومة والبقاء رغم الجراح العميقة والآلام العظيمة.
على أن هناك ملمحاً دعوياً آخر يجب التنويه به، وهو تحول كثير من الكتَّاب والمثقفين عما كانوا عليه من معاداة الإسلام ومن يحملونه إلى تصحيح رؤيتهم، وتعديل أفكارهم تماماً؛ بحيث حصل لهم تغير جذري في طريقة التفكير وطبيعة التصور، سواء في الكتابة عن الإسلام، أو الحديث عن الإسلاميين، أو الكتابة عن القضية نفسها، وهذا أيضاً من بركات الجهاد، وآثار الدماء الزكية.
كل هذا يجب أن يُعرض على أولادنا، ويُشرح لهم، ويُبين لهم الحال اليوم بمقارنته بالحال سابقاً، بما يرسخ في نفوسهم أهمية الدعوة، وضرورة ممارستها، وبما يقرر في وجدانهم عظمة الجهاد وآثاره النافعة.
سادساً: التربية السياسية:
يتحدث كثير من الناس في «السياسة»، بل لا تكاد تجد إنساناً إلا ويحدثك فيها سواء أكان دارساً لها أم جاهلاً بها، لكنه يتحدث من واقع ما يراه، وهذا الحدث الكبير «طوفان الأقصى» لا شك أن الحديث السياسي تضاعف معه بما يوجب التأمل فيه والتوقف عنده، والنظر في كيفية استثماره لتربية أولادنا تربية سياسية.
ولنا أن نتأمل التغير السياسي الهائل الذي أحدثته معركة «طوفان الأقصى»، على أكثر من مستوى:
– فعلى المستوى المحلي؛ ظهرت عورة السلطة الفلسطينية التي اعتاشت على مسلك «التسويات»، وجرت وراء سراب السلام وسلام السراب لعقود طويلة، ثم يتجلى اليوم أنه لا حل في تحرير الأوطان إلا بالجهاد.
– وعلى المستوى الإقليمي؛ اتضح التواطؤ الصارخ مع العدو الصهيوني، والموقف الـمُظاهر لهذا العدو على حساب المسلمين في فلسطين، فلا تُفتح المعابر، ولا يؤخذ موقف يتوقف به العدو عن عدوانه، فما أهون العالم العربي «الرسمي» بخذلانه وتواطئه وتآمره.
– وعلى المستوى العالمي؛ اتضح أن الحرب ليست بين «إسرائيل»، وفلسطين أو «حماس» فقط، وإنما هي حرب بين مشروعين حضاريين، حرب وجود وليس نزاعاً على حدود، حرب دينية عقدية وليست على مصالح سياسية، فتصريحات قادة الغرب جعلت هذه المعاني صارخة وبارزة، فكثير منهم يتحدث بوصفه صهيونياً بما فيهم الرئيس الأمريكي بايدن، وغيره، كما أن رئيس «إسرائيل» وقف يوماً في أثناء هذه الحرب؛ ليقول: «إن الحرب الدائرة الآن ليست بين إسرائيل وحماس فحسب، ولكنها لإنقاذ الحضارة الغربية»!
هذا التغير الواضح يجب أن يشرح لأبنائنا بلغة قريبة يسيرة، تُفضي إلى وعي عميق بتجليات الحدث، وإلى مزيد من التمسك بالإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقاً، وتجعلهم يفهمون الأحداث ويفسرون مجرياتها طبقاً لهذا التصور المقصود.
سابعاً: التربية الاقتصادية:
حفلت نصوص القرآن والسُّنة بالحديث عن الاقتصاد، وحفظ المال، والنهي عن الإسراف والتبذير، وجعلت المبذرين قرناء للشياطين: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً﴾ (الإسراء: 27)، وإن ما يجري على أرض غزة في معركة «طوفان الأقصى» يعد مصدراً مهماً للتربية الاقتصادية على أكثر من صعيد، ومن ذلك:
ممارسة الجهاد الاقتصادي بمقاطعة العدو مقاطعة شاملة، من جماهير الشعوب، ومن الدول والحكومات، ومن مؤسسات المجتمعات، فلن تكون المقاطعة موجعة بحق إلا إذا تلاقت إرادات الشعوب في المقاطعة مع تصرفات الحكومات في المقاطعة السياسية والدبلوماسية والسياسية.
ومن فضل الله تعالى أن هناك وعيًا شعبيًّا كبيرًا جدًّا في هذه الأحداث بالمقاطعة، فإن حركة الشعوب وجهادها الاقتصادي بالمقاطعة سبق خطاب العلماء والدعاة والكُتَّاب، هكذا بالحس الإسلامي العام؛ نصرة لأهلنا في غزة، ومحاولة لإيجاع العدو، والأثر الشعبي للمقاطعة لا تخفى آثار أضراره على اقتصاد العدو ومن عاونه، كما أن الاقتصاد في العيش، وتوفير بعض الاقتصاديات؛ دعمًا للمرابطين والمجاهدين، وشعوراً بهم وتضامناً معهم.. إن ذلك لمن عزم الأمور.
هذه المعاني كلها يجب استثمار الحدث الكبير -«طوفان الأقصى»- في تربية الأولاد عليها وعلى هذه الثقافة: ثقافة الاقتصاد، وثقافة المقاطعة، وثقافة الجهاد المالي، فالله تعالى قرن الجهاد بالنفس بالجهاد بالمال في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، وأحياناً يقدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس؛ لأنه لولا الجهاد المالي لما حصل الجهاد القتالي، قال تعالى: ﴿انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (التوبة: 41)، وقال: ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (الصف: 11).
ثامناً: التربية الاجتماعية:
من معالم التربية المهمة التي يربي عليها الإسلام أتباعه التربية الاجتماعية، ولا نكاد نجد رسالة تضمنت معالم اجتماعية وآداباً اجتماعية مثل الإسلام، وحسبنا أن تراثنا مليء بكتب الآداب، ومن ذلك في القديم: «الآداب الشرعية والمنح المرعية» للإمام ابن مفلح، ومنه في الجديد: «فقه الآداب» لشيخنا الإمام يوسف القرضاوي، رحمهما الله تعالى.
وإن «طوفان الأقصى» تفرض هذه التربية، وتستثمر الحدث للتربية الاجتماعية، من حيث التواصل مع الناس، وشرح القضية لهم، ومن حيث تكافل أهل فلسطين بعضهم ببعض، ثم تكافل المسلمين جميعاً مع أهل فلسطين عامة وأهل غزة خاصة، وهذا مقتضى الإيمان!
إن هذا التكافل الداخلي والخارجي ليستجيب لمدونة المعاني الشرعية والنصوص من القرآن والسُّنة التي تحض على التكافل والتعاون والتضامن والتداعي، ومن ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم بسندهما عن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوادِّهِمْ، وتَراحُمِهِمْ، وتَعاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكى منه عُضْوٌ تَداعى له سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمّى»(1).
إن الإسلام دين إنساني، لا يرضى أن ينام المسلم شبعان، وجاره إلى جواره جائع وهو يعلم، فكيف بمن تُهدّم بيوتهم، ويُهجّرون منها، ويقيمون في مخيمات يضربها العدو بطيرانه العسكري صباح مساء؛ فضلاً عن مشاهد الأطفال والنساء التي نتابعها على الشاشات، والشهداء والأشلاء، وأنصاف الجثث التي يُستنقذ بعضها من تحت المباني المدمرة؟! كل هذا يفرض التربية الاجتماعية، ويجعل هذا الحدث الكبير مصدراً لتعزيز هذه التربية في نفوس أولادنا.
تاسعاً: التربية الجماعية:
التربية الجماعية تربية قرآنية أصيلة ونبوية ثابتة، فنداءات القرآن الكريم للمؤمنين لم تأت بصيغة المفرد «يا أيها المؤمن»، أو «يا أيها المسلم»، وإنما بصيغة الجمع: «يا أيها الذين آمنوا»، «يا عبادي»، حتى جعله طريقة لنداء الناس جميعاً «يا أيها الناس»، «يا بني آدم»؛ حتى في دعاء المسلم وهو في الصلاة يقرأ سورة «الفاتحة»، لا يقول: «اهدني»، وإنما يستحضر الجماعة المسلمة في وجدانه؛ فيقول: «اهدنا الصراط المستقيم».
وكل ما ورد في السُّنة النبوية مما لا حصر له ومما يأمر بالتكافل والتضامن والتراحم لا يكون إلا جماعياً؛ حتى صدّقت السُّنة النبوية القرآنَ الكريم، وجعلته مبدأً إنسانياً حين كان النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، التي قال في خطبتها: «أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى».
وإن من الواجب أن نستثمر معركة «طوفان الأقصى» في ترسيخ هذه التربية عند المسلمين عامة، وعند أولادنا خاصة؛ فهذه الحرب الكبرى لا يمكن أن تُواجَه بأعمال فردية، لا أقول على أرض المعركة فقط التي تستوجب تنسيقًا بين فصائل المقاومة في الداخل والخارج، وتنسيقًا وترابطًا بين السياسيين من أبناء فلسطين في الخارج، وإنما كذلك في إسناد المسلمين عامة لأهل فلسطين: في العمل الفكري، والخيري، والجهاد بالكلمة والفتوى والبيان، والحشد والتحشيد من أجل التداعي للمسلمين على أرض فلسطين المباركة.
كل هذه المعاني يجب أن يعيشها الأولاد، وينسلكوا فيها، ويتحركوا بين الناس؛ فكراً وثقافة وتبليغاً وحشداً وتحشيداً؛ فإن التربية بالموقف والحدث لها فعل وتأثير لا يتحصل في الظروف العادية إلا بالسنوات الطوال والجهد الكبير والمعاناة المتواصلة.
عاشراً: التربية الإعلامية:
أصبحت وسائل الإعلام اليوم في يد كل إنسان، والمنصات الإعلامية لا حصر لها، وهي مؤثرة في تكوين الرأي العام، وتشكيل القناعات، وجزء كبير جداً من الحرب يقوم على الإعلام، وقد تابعنا ماذا فعلت «إسرائيل» في ترويج روايات كاذبة عن المقاومة وفعلها بالأسرى، وبما أسمته «إسرائيل» «مدنيين»، وهو كلام لم يلبث أن تبين كذبه كله وتبدد مع مرور الوقت واستمرار الأحداث، وما جاء على لسان كثير من الأسرى المفرج عنهم.
الشاهد هنا قوة الإعلام وأثره الكبير، وهو حرب مع الحرب، وقتال مع القتال، ورصاص مع الرصاص، ومن استهان بالإعلام فلا يلومن إلا نفسه؛ فالأنظمة المحتلة والمستبدة اليوم تستعين بشركات إعلامية تسويقية لتحسين صورتها عالمياً، وعصرنا هو عصر الإعلام، والجهاد الإعلامي هو واجب العصر.
ومن واجبنا في هذا الحدث العظيم –«طوفان الأقصى»، وما بعدها– أن نستثمره مع أبنائنا في التربية الإعلامية: كيف يمارس الأولاد الجهاد الإعلامي، ويقفون على أهمية الإعلام، وآثاره الكبيرة، وانعكاسه على عموم الناس، وأثره في المعركة نفسها؟!
إن استثمار أولادنا للحسابات الخاصة لهم على وسائل التواصل الاجتماعي بمنصاته المختلفة وأدواته المتنوعة في هذه الحرب الكبرى لهو من الواجبات التي يجب أن يقوموا بها، ومن واجبنا تربيتهم على ذلك، وتوجيههم نحوها، وهم بحمد الله من يُعلّمون آباءهم استخدامها، لكن يأتي دور الآباء اليوم هنا في التوجيه والترشيد.
وإذا كانت هذه المنصات قد أنشأها الغرب نفسه، فلا مانع من استثمارها بشكل إيجابي بقدر الإمكان، حتى يأذن الله لنا بمنصات تليق بنا وبرسالتنا، وحتى يشاء الله لهذه الأمة باستقلالية في وسائل خاصة بها.
هذه مجموعة من الجوانب التربوية التي رأيت أنه من المناسب أن نستثمر حدثاً عظيماً مثل «طوفان الأقصى» لنحيي أولادنا به، ونحيي أنفسنا معهم، والتربية بالحدث لا مثيل لها في عملية التربية؛ ترسيخًا للمعاني، وتثبيتًا للقيم، وتوسيعًا للمدى، وتسريعًا في الحصاد التربوي والبناء العملي، ورُبَّ حَدَثٍ يُغني في التربية عن كلام طويل، ويقوم مقام عقود من الزمان في الشرح والبيان!
____________________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (6011)، ومسلم في صحيحه (2586).