فقَدَ العالَم العربي والإسلامي أخيراً رجل الأعمال الكويتي محمد عبدالرحمن الشارخ، رائد تقنية اللغة العربية في عالم الحاسب الآلي (الكمبيوتر)، وأول من طور برامج عربية للتعليم، ومؤسس ورئيس مجلس إدارة شركة صخر لبرامج الحاسب، الذي وافته المنية يوم الأربعاء 6 مارس 2024م.
والشارخ هو أبو اللغة العربية في الكمبيوتر، حيث يرجع له الفضل في إدخال اللغة العربية وحروفها على برامج التقنية الحديثة لأول مرة في التاريخ في الثمانينيات من القرن الماضي، وساهمت شركته في تطوير أول حاسب منزلي عربي باسم «صخر-MSX»، كما ساهم بشكلٍ فعال في تطوير تقنية التعرف الضوئي على حروف اللغة العربية، وبرمجيات تحويل النصوص إلى كلام منطوق، وقام بتطوير أول برنامج للقرآن الكريم والحديث الشريف وقواعد البيانات الإسلامية، ووضع أسس معالجة اللغة العربية الطبيعية بالحاسب الآلي.
ولد محمد الشارخ في مدينة الكويت عام 1942م، وحصل على بكالوريوس الاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة القاهرة عام 1965م، كما حصل على درجة الماجستير في التنمية الاقتصادية من كلية ويليامز بولاية ماساتشوسيتس في الولايات المتحدة.
أنشأ الشارخ في عام 1982م شركة صخر للحاسب الآلي، وأنشأ خلال حياته العامرة بالمنجزات العديد من مراكز التدريب في الدول العربية، وشارك في العديد من اللجان المالية والاقتصادية المحلية والدولية، وتولى العديد من المناصب، منها: نائب المدير العام لصندوق الكويت للتنمية الاقتصادية العربية في الفترة من عام 1969 – 1973م، وفي الفترة من عام 1973 – 1975م أصبح نائباً للمدير التنفيذي للبنك الدولي لإعادة البناء والتنمية (I.B.R.D) واشنطن، وفي الفترة من عام 1975 – 1979م أسس وترأس مجلس إدارة بنك الكويت الصناعي.
جوائز الشارخ
حاز الشارخ على العديد من الجوائز المرموقة على رأسها جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عام 2021م، وذلك لقيامه بإنتاج أول برنامج حاسوبي للقرآن الكريم وكتب الحديث التسعة باللغة الإنجليزية عام 1985م، وتحديث أرشيف المعلومات الإسلامية الذي يضم -بالإضافة للقرآن الكريم- موسوعة الحديث الشريف، وموسوعة الفقه الإسلامي، وبرامج وقواعد معلومات إسلامية أخرى، بجانب جهوده المتميزة، للاستفادة من التقنية مبكراً في خدمة لغة القرآن الكريم والثقافة العربية الإسلامية.
كما حاز في عام 2018م على جائزة الدولة التي يقدمها المجلس الوطني للثقافة بالكويت، وجائزة «World Summit Award» من كل من: ستيبان ميسيتش، رئيس جمهورية كرواتيا، وليونيل فرناندز رئيس جمهورية الدومينيكان، وألفريد جوسينباور، المستشار الاتحادي لجمهورية النمسا في احتفالية القمة العالمية عام 2007م، وجائزة «الاحتواء الإلكتروني» (E-Inclusion) التي منحت لبرنامج «إبصار» للمكفوفين من القمة العالمية حول مجتمع المعلومات في عام 2007م نفسه، كما حصل على الجائزة التقديرية الكبرى ضمن جوائز التقنية العربية خلال معرِض جيتكس 2005م، وجائزة منتدى النجاحات الخليجية عام 1996م، وجائزة «الرواد» من مؤسسة الفكر العربي عام 2004م.
كذلك حصل الشارخ على جائزة أفضل رجل ساهم في تقنية المعلومات عام 1997م، وجائزة صاحب الرؤية الإلكترونية عام 2002م من قبل مدينة دبي للإنترنت وشركة «أريبيان بزنس» تقديراً لإنجازاته في مجال صناعة البرامج العربية، كما نال الشارخ في عام 1998م جائزة أفضل منتجات بمعرض كومدكس مصر، وجائزة أخرى من «ناشر نت» عام 1998م، إضافة إلى العديد من شهادات التقدير من عدد من المؤسسات الكويتية والسعودية والدولية.
الشارخ.. وكمبيوتر «صخر»
أسس الشارخ في عام 1982م شركة «صخر العالمية للحاسب الآلي»، وكانت بداية عمل الشركة في برامج ألعاب الأطفال (الأتاري)، ثم اتجه الشارخ نحو إصدار برامج الأطفال على الكمبيوتر تحت اسم «صخر MSX»، ومن أمثلة ألعاب كمبيوتر صخر التي انتشرت في تلك الآونة: مغامرة البطريق، ابن سينا، اختبر معلوماتك، الوطن العربي، اختبر ذكاءك، نافذة على العالم، الجدول الدوري.
لقي مشروع صخر نجاحاً على المستوى العربي مما دفعه الى تطوير المشروع تحت اسم منتج «صخر PC»، وعلى الرغم من معارضة الكثير من مستشاري الشارخ لاسم صخر، فإنه كان مصراً على الاسم؛ فأصبحت كلمة «صخر» مقرونة بالشارخ وبالعالمية، بعدما نالت القبول واكتسبت الشهرة في العالم العربي، واختياره لهذا الاسم جاء من المثل الشائع «العلم في الصغر كالنقش في الحجر»؛ وهو ما أوحى له بأن «الصخر» هو الرمز الأنسب لمشروعه غير المسبوق.
استعان محمد الشارخ بالعالم المصري د. نبيل عليّ لوضع أسس وقواعد اللغة العربية ومكننتها بالحاسوب، ومن ثم تمكنت صخر من تصنيع أول جهاز كمبيوتر عربي بالتعاون مع شركة ياماها اليابانية، كمشروع مشترك كسر الحاجز التقني بين الشعوب العربية وتقنية المعلومات بين شركتي «العالمية» الكويتية وياماها اليابانية، وقد نجح المشروع بشكل كبير، وتم بيع مئات الآلاف من الأجهزة، فقد بيع من جهاز «AX-170» وحده أكثر من 300 ألف جهاز، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من البرامج والتطبيقات سواء التي أنتجتها العالمية أو شركة برق للبرمجيات أو التي تنتجها شركة كونامي اليابانية وأشهرها كاسل فينيا.
اعتمد الشارخ في كل مشروعاته على الكفاءات العربية، وراهن على قدرة هذه العقول على إنتاج برامج ذات كفاءة عالية، وكان الشارخ من الداعمين لخريجي الجامعات العربية من الشباب وتوظيفهم وإغرائهم برواتب عالية كمتخصصين في علوم الكمبيوتر، وتحولت «صخر» إلى ما يشبه الجامعة العربية المصغرة.
كما قام الشارخ بإرسال الكثير من الشباب العرب إلى الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة لغات للبرمجة وعلم اللغات الطبيعية (Natural languages) الذي لم يكن موجوداً في الجامعات العربية وقتها، وقامت شركة صخر بتطوير جيل جديد من تقنيات المعالجة الطبيعية للغة العربية «Natural Language Processing NLP»، ونجحت «صخر» في أن تتغلب على تفوق تقنية المعلومات الإنجليزية على مثيلاتها العربية، وأن تقوم في ذات الوقت بتصحيح الاعتقاد الخاطئ بأنه لا يمكن تطويع الحلول المتطورة في الغرب لتناسب احتياجات المستخدمين العرب، وحصلت «صخر» خلال مسيرتها على ثلاث براءات اختراع من مكتب الولايات المتحدة لبراءات الاختراع والعلامات التجارية في مجالات، هي: التعرف الضوئي على الحروف، الترجمة الآلية من العربية للإنجليزية، والنطق العربي.
ونظراً لالتزامها بتزويد المستخدمين العرب بالحلول الذكية، فإن «صخر» واجهت العديد من التحديات التي تثني العديد من المنافسين، سواء الدوليين أو العرب، من أبرزها عدم وجود أي دعم حكومي، مما حدا بـ«صخر» إلى البدء في مشروع طموح للبحث والتطوير يستغرق أكثر من مليوني ساعة عمل، ويتم تمويله بالكامل بالاستثمارات الخاصة، وذلك اعتمادًا على اعتقاد محمد الشامخ الثابت في مدى أهمية وقيمة اللغة العربية للعملاء سواء من الأفراد أو المؤسسات والحكومات.
عملت شركة «صخر للحاسب الآلي» على استقدام العقول العربية من العراق ولبنان وسورية ومن كافة الدول العربية للتطوير، مع الاعتماد على لغات البرمجة التي توفرها شركة مايكروسوفت الأمريكية، كما قامت الشركة بالتعاون مع شركة مايكروسوفت بتطوير النسخة العربية من نظام التشغيل «صخر MSX»، ونظرا لنجاح المشروع فقد تم إصدار عدة أجيال من الجهاز من أشهرها أجهزة: «AX-170»، و«AX230» التي تعمل على نظام «MSX»، وجهاز «AX-990» الذي يعد مزجاً بين أجهزة «MSX» وأجهزة «سيجا ميغا درايف»، وجهاز «AX-370» الذي عمل على نظام «MSX2».
خلال سنوات قليلة نجحت شركة «صخر للحاسب الآلي» من تطوير نفسها وإنتاج لغات برمجة خاصة بها، وسرعان ما أصبحت الشركة العربية منافساً قوياً لمايكروسوفت في سوق الخليج العربي، وسيطرت على 43% من المبيعات عام 1985م، وباعت أكثر من مليوني جهاز حاسوب في العالم العربي، وحققت الشركة أرباحاً طائلة من بيع الحواسيب والبرمجيات، رغم أنها لم تحظَ بأي دعم حكومي، إضافة إلى عدم الثقة من قبل الموزعين العرب في أي منتج عربي.
أدّى نجاح مشروع حاسب «صخر» لظهور العديد من المشاريع الشبيهة التي كانت كلها تستخدم نظام التشغيل «صخر» وهي: في دولة الكويت شركة العالمية بجهاز (صخر)، وفي المملكة العربية السعودية شركة باوارث للإلكترونيات بجهازي «المثالي 1»، و«المثالي 2»، وفي العراق المنشأة العامة للصناعات بجهاز الوركاء، وفي ليبيا المنشأة العامة للإلكترونيات بجهاز الفاتح، وكانت سورية والأردن ومصر على وشك إنتاج أجهزة تعمل بنفس النظام، لكن كان إعلان شركة مايكروسوفت المالكة لحقوق نظام التشغيل «MSX» عن إيقاف تطويره عام 1990م قاصمة الظهر لكل تلك الأنشطة.
بعد حرب الخليج الثانية تعرضت شركة «صخر للحاسب الآلي» لضربات متتالية، منها المضاربة على أسهمها في البورصة، ثم إيقاف شركة مايكروسوفت تطوير برنامج «MSX» الخاص بالحاسوب العربي عام 1990م، وفي هذا العام نفسه نقلت الشركة أعمالها من الكويت إلى منطقة هليوبوليس بالقاهرة، وهناك قامت بإعادة هيكلة أنشطتها، وتم إيقاف برنامج إنتاج أجهزة الحاسب ليتم الاعتماد على الذراع البرمجية للمؤسسة، لينحصر عملها على إنتاج البرمجيات والتطبيقات.
بعد انتقال الشركة إلى القاهرة وتخصيص أغلب مواردها ناحية النشاط البرمجي، أنتجت العديد من البرامج من أهمها: أراب دوكس، أدوات تحليل النصوص، الإدريسي، جهينة، القارئ الآلي، البوابة التعليمية، ترجمة صخر للمؤسسات، برنامج إبصار للمكفوفين وضعاف البصر، النطق الآلي للنصوص، التعرف الآلي على الكلام، صخر ألو وغيرها.
مشاريع الشارخ الثقافية
من مقولات الشارخ الخالدة: «إن التخطيط والتطوير التقنيين، والمساهمة العربية في صناعة البرمجيات، مسائل ذات أولوية ثقافية ومعرفية لا تقل عن الأمن الغذائي، والأمن الاجتماعي، والتعليم الإلزامي مثلاً، بل هي توازي في أهميتها مسألة الأمن القومي والدفاع عن الوجود؛ فثمة فرصة حقيقية في أن يكون هذا التطوير بمثابة قاطرة للتقدم الاجتماعي في عصر المعلومات، تتيح لنا الالتحاق بالركب العالمي، ومن ثم مجاراته والعودة للمساهمة في مسيرته.. وعلى النقيض، فإن تجاهل هذه المسؤولية لن يفوت فرصة سانحة أمامنا لكي نلحق بالركب فحسب، بل سيعني أيضاً أننا قبلنا أن نكون مخترقين، وبالأحرى تابعين وهامشيين».
لذا، عمل الشارخ على تطوير العديد من البرامج التعليمية والتثقيفية وتعلم البرمجة التي تجاوز عددها 90 برنامجاً، ونشر كتب تعليم الحاسوب وتدريب المدرسين وتأسيس معاهد تعليم برمجة الحاسب، كما أنجز أرشيف المعلومات الإسلامية والتعرف الضوئي على الحروف العربية عام 1994م، وفي عام 1997م تعاون الشارخ مع «اليونيسكو»، وأسَّس مشروع «كتاب في جريدة»، كما أنه أحد المساهمين في تمويل «مركز دراسات الوحدة العربية»، و«المنظمة العربية للترجمة»، وقد أسهم أيضاً في تأسيس «معهد العالم العربي» في باريس.
في عام 1998م أنجز الشارخ برنامج نطق الحروف العربية في الحاسوب، وأنجز برنامج الترجمة من وإلى العربية عام 2002م وترجمة التخاطب الآلي عام 2010م، ومضى في تطوير مشروعه والدخول في عالم النشر المكتبي والإنترنت.
وفي عام 2016م، بدأ الشارخ في مشروعه الكبير «أرشيف الشارخ» للمجلات الأدبية والثَّقافية العربية وتحميلها على شبكة الإنترنت، وهو جهد استثنائي وكبير للحفاظ على جانب مهم من التراث الثقافي العربي وجعله متاحاً لملايين الباحثين والمثقفين العرب، ويحوي هذا الأرشيف نسخاً من أمهات المجلات العربية القديمة والحديثة، إذ يبلغ عدد المجلات 272 مجلة، عدد الأعداد فيها 15824 عدداً، وعدد المقالات 325 ألفاً و625 مقالة، وعدد الصفحات أكثر من مليوني صفحة، وعدد الكتاب 52 ألفاً و76 كاتباً عربياً وأجنبياً.
وفي يناير 2020م تم الإطلاق الرسمي لموقع أرشيف الشارخ للمجلات الأدبية والثقافية في حلته الجديدة والمطورة «https://archive.alsharekh.org» لتسهيل الوصول إلى حوالي مليوني صفحة من 267574 مقالاً عبر مختلف المجلات العربية ابتداء من عام 1876م.
أما «معجم صخر المعاصر» فهو درة مشاريع الشارخ الثقافية، وهو معجم لغوي أفاد من الأدوات والتقنيات التي بنتها شركة «صخر» خلال العقود الأربعة الماضية، ووضعت فيها خبرتها اللغوية الطويلة في معالجة اللغة العربية سواء في مرحلة بناء المعجم وإعداده، أو في مرحلة تقديمه للمستخدمين وتهيئته للبحث واستعماله، وهي 8 أدوات، أولها: قاعدة البيانات المعجمية Lexical Data Base (LDB)، وهي قاعدة بيانات معجمية مترابطة ومتشابكة تحتوي بداخلها على الكلمات العربية الحديثة كما تحتوي على البيانات الصرفية والدلالية والسياقية لكل هذه الكلمات وتعتمد قاعدة البيانات المعجمية في بياناتها على المكنز العربي الحديث الذي بنته صخر.
أما الأداة الثانية فهي المحلل الصرفي الآلي (Morphological Analyze)، الذي يقوم بتحليل الكلمة العربية، وإعطاء التشكيلات المحتملة لها، وقسم الكلم الخاص بها، وزمن الاستخدام، مع جميع المعلومات الصرفية الخاصة بكل تحليل مثل: الجذر والميزان وقسم الكلم والسوابق واللواحق والتذكير والتأنيث والإفراد والتثنية والجمع وقابلية الكلمة للتنوين وما إلى ذلك.
أما الأداة الثالثة فهي المدقق الإملائي الآلي (The Corrector)، وهو الذي يقوم بتصويب الأخطاء الإملائية آلياً وبكفاءة عالية تصل إلى 95%، والأداة الرابعة هي المشكل الآلي (Automatic Discretize) الذي يقوم بتشكيل الكلمات العربية آلياً، والأداة الخامسة هي المكنز العربي المُرَمَّز (POS-Tagged Arabic Corpus) وهو يمثل اللغة العادية للمتعلمين العرب، أي غير المتخصصة في حقل علمي معين، ويحوي سبعة ملايين كلمة من نصوص الجرائد والمجلات الأسبوعية والشهرية وبعض الدوريات تحقق توازنًا كافيًا وحياديًّا في توزيع المكنــز على الموضوعات العامة للمعرفة العربية المعاصرة، في كل الأقطار العربية في المشرق والمغرب.
الأداة السادسة في معجم صخر المعاصر فهي المكنز العربي، وأرشيف المجلات العربية (Arabic Corpus)، فلدى «صخر» مكنز للمفردات العربية يزيد على 4 تريليونات مفردة لمادة منشورة منذ عام 1950م بالإضافة لمفردات القرآن الكريم والحديث الشريف لأنها ما زالت متداولة بين ناطقي العربية وأرشيف المجلات الثقافية والأدبية الذي يضم كافة المجلات الثقافية والأدبية في كل البلاد العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر.
والأداة السابعة هي قاموس صخر الإلكتروني (Sakhr Dictionary) الذي يقوم بإعطاء الترجمة الإنجليزية المقابلة للكلمة العربية ويحتوي على 150 ألف مفردة.
أما الأداة الثامنة فهي الناطق الآلي (Text To Speech)، حيث يقوم محرك صخر للنطق الآلي بتحويل أي نص عربي إلى نص منطوق بصوت بشري طبيعي.