لقد سبق القرآن الكريم علوم التنمية البشرية، وخبراء علم النفس والاجتماع، في وضع أساليب وخطوات يمكن من خلالها للمرء أن يسمو بنفسه، وأن يرتقي بذاته، وأن يعزز الثقة في قدراته.
وعند تدبر آيات القرآن الكريم، سنجد أن المنهج القرآني تضمن طريقاً واضحاً للنهوض بالذات، بل تعامل مع النفس البشرية باعتبارها جوهرة نفيسة، وركيزة أساسية في بناء الكون وإعماره.
أولاً: التفكر في الذات:
نرى القرآن الكريم على الدوام يحض على التدبر والتفكّر في عظيم صنع الله، من خلال البحث في أغوار النفس البشرية، واكتشاف مكنوناتها، وخباياها؛ (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (الذاريات: 21)، وقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (غافر: 67).
وهذه النداءات المتكررة في القرآن تجعل المسلم دائم التواصل مع ذاته، قادراً على رؤية مواطن الجمال والإعجاز فيها، وبالتالي يستطيع أن يدرك مكامن القصور البشري في هذا البناء المعجز، فتتولد لديه حاسة النقد البناء، والقدرة على تعديل المسار من منطلق إعزازه لهذا البناء الإلهي.
ثانياً: صناعة الذات:
قوله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا {7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس)، وهنا إقرار بمرحلة صناعة الذات، وسبل دفع الذات إما إلى الخير أو الشر، وهي مرحلة مفصلية في صراع الحق والباطل داخل النفس البشرية، فالإنسان هو من يحدد طريقه إما الفلاح أو الخسران، يقول تعالى متحدثاً عن هذا المعنى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد: 10).
ثالثاً: تطوير الذات:
من خلال اتباع أوامر الله واجتناب نواهيه، والعمل بأحكامه، والتزام حدوده، وقد وردت آيات كثيرة تحض على ذلك، منها قوله تعالى: (وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وآتوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (النور: 56)، وقوله عز وجل: (انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) (التوبة: 41)، وقوله: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (البقرة: 281).
كل هذه الآيات ومثيلاتها في القرآن الكريم تغرس في نفس المسلم البحث الدائم عن الجديد في نفسه وتطويرها من خلال الجوانب المادية والروحية كذلك.
رابعاً: ضبط الذات:
من خلال مراجعتها وتقويم مسارها، وتجنب الزلل، وعدم البحث عن مبررات لانزلاقها نحو الشر والفجور، وضرورة التغيير بداية من النفس إلى المجتمع، قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11)، وقوله عز وجل: (يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ إلَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (المائدة: 105).
خامساً: المصارحة مع الذات:
لكي يكتمل بناء الذات، لا بد من المصارحة مع النفس، وعدم الكذب عليها، أو الإبقاء عليها في كهف الأوهام، بل يجب الصدق والمراجعة واللوم حتى تستقيم تلك النفس وتتحمل المسؤولية، قال تعالى: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) (البقرة: 9).
وهنا يؤكد القرآن الكريم أن الإنسان يتحمل وحده نتائج أفعاله في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) (الطور: 21)، وقوله عزو وجل: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) (الإسراء: 7).
نفسك بين جنبيك، بيدك أن تبنيها وتطورها وتصارحها وتغيرها، وبيدك أن تبقيها حبيسة شهواتها، تظن عبثاً أنها على الحق وهي قد كتبت في سجل أهل الباطل، قال تعالى محذراً: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً {103} الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (الكهف).
وعلى المسلم أن يتذكر دائماً أن نفسه أرض خصبة ينمو شجرها إذا ارتوت من كتاب الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتصير بواراً إذا ترك لها العنان لتلهث خلف شهواتها.