إننا إذ نتحدث في باب الأخلاق ونسوق جملة من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم للتأسي بها، يجب أن نعلم أنه ليس حديثاً هيناً، فقد وصف الله عز وجل أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وأشاد بها فقال سبحانه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أحبكم إليَّ أحسنكم أخلاقاً» (أخرجه البخاري)، ومن هذا المنطلق، فإن الحديث عن محاسن الأخلاق، أو في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم لهو من الأهمية بمكان لنبحث ونتأسى لنفوز برضا الله تعالى.
الأمانة شرعاً
حضت آيات القرآن الكريم على التحلي بخلق الأمانة فقال تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) (النساء: 58)، وعن ابن عباس قال: أخبرني أبو سفيان أن هرقل قال له: سألتك ماذا يأمركم؟ فزعمت أنه يأمر بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة، قال: وهذه صفة نبي. (رواه البخاري)، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» (رواه البخاري ومسلم).
من صور الأمانة
1- الأمانة فيما افترضه الله على عباده:
هي أكبر الأمانات، وهي جملة العبادات التي كلف الله عباده بها، وهي ما قال الله تعالى فيها: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ) (الأحزاب: 72)، يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: قال العوفي عن ابن عباس: يعني بالأمانة الطاعة، وعرضها عليهم قبل أن يعرضها على آدم، فلم يطقنها، فقال لآدم: إني قد عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها، فهل أنت آخذ بما فيها؟ قال: يا رب، وما فيها؟ قال: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت، فأخذها آدم فتحملها، فذلك قوله: (وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً).
2- الأمانة في الأموال:
ومن الأمانة العفة عما ليس للإنسان به حق من المال، وتأدية ما عليه من حق لذويه، وتأدية ما تحت يده منه لأصحاب الحق فيه، وتدخل في البيوع والمواريث والودائع والرهون والعواري والوصايا وأنواع الولايات الكبرى والصغرى وغير ذلك(1).
3- الأمانة في الأعراض:
من الأمانة في الأعراض أن يعف الإنسان عينه ويكف لسانه عن أعراض الناس بغير حق، فلا يلغ فيها بالغيبة والنميمة ونشر الفاحشة في الذين آمنوا بالخوض مع الخائضين بغير دليل بحقه، كذلك العفة عما ليس للإنسان فيه حق منها، كالعفة عن النظر للمحرمات.
4- الأمانة في الجهاد(2):
يحمل المجاهد في سبيل الله أمانة تنفيذ أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل العدو، فالقتال ليس هدفاً في حد ذاته، وإنما لأسباب أهمها التمكين لدين الله وتحرير العباد من عبودية غير الله سبحانه وتعالى، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم للمجاهدين: «اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا» (رواه مسلم)، كذلك فقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن قتل النساء والصبيان في الحرب (رواه مسلم)، كذلك ما يقوم به من يخلف الغازي في أهله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «.. وما مِن رَجُلٍ مِنَ القاعِدِينَ يَخْلُفُ رَجُلًا مِنَ المُجاهِدِينَ في أهْلِهِ فَيَخُونُهُ فيهم، إلَّا وُقِفَ له يَومَ القِيامَةِ، فَيَأْخُذُ مِن عَمَلِهِ ما شاءَ، فَما ظَنُّكُمْ؟» (رواه مسلم).
5- الأمانة في الأسرة:
وكلا الوالدين في الأسرة يحملان أمانة أفراد أسرتهما لا تنقص مسؤولية طرف من مسؤولية الطرف الآخر، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّكُمْ راعٍ وكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والأمِيرُ راعٍ، والرَّجُلُ راعٍ علَى أهْلِ بَيْتِهِ، والمَرْأَةُ راعِيَةٌ علَى بَيْتِ زَوْجِها ووَلَدِهِ، فَكُلُّكُمْ راعٍ وكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ» (رواه البخاري)، فأمانة الرجل أن يتخير أُماً صالحة لأبنائه، ثم رعايتها، ثم رعاية أبنائه والإنفاق عليهم في غير تقتير أو إسراف، كذلك المرأة مسؤولة ومستأمنة على بيت زوجها بحسن التبعل، وحسن التربية للأبناء، كذلك تشملهما الأمانة معاً في خصوصية العلاقة بينهما فلا يبوحان بأسرار العلاقة بينهما، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ مِن أَعْظَمِ الأمَانَةِ عِنْدَ اللهِ يَومَ القِيَامَةِ، الرَّجُلَ يُفْضِي إلى امْرَأَتِهِ، وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا» (رواه البخاري).
6- الأمانة في الولاية:
يقول ابن عثيمين: ومن الأمانة أمانة الولاية وهي أعظمها مسؤولية، الولاية العامة والولايات الخاصة، فالسلطان الرئيس الأعلى في الدولة، أمين الأمة كلها على مصالحها الدينية، ومصالحها الدنيوية، على أموالها التي تكون في بيت المال، لا يبذرها ولا ينفقها في غير مصلحة المسلمين، ويقول ابن تيمية: واجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: اللهم أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة.
فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها، فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة، والآخر أعظم قوة، قدم أنفعهما لتلك الولاية وأقلهما ضرراً فيها، فيقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع وإن كان فيه فجور على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أميناً، كما سئل الإمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف، مع أيهما يغزى؟ فقال: أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه، وضعفه على المسلمين.
7- الأمانة في الشهادة:
ومن الأمانة في الشهادة ألا يمتنع المسلم عن أدائها إذا طلبت منه، فيقول الله تعالى: (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ( الطلاق: 2)، ويقول سبحانه: (وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (البقرة: 283)، وعن أبي بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أنبِّئكم بأكبر الكبائر: الإشراك بالله وعقوق الوالدين»، وكان متكئًا فجلس فقال: «وقول الزور»، قال: فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولها حتى قلنا ليته سكت. (أخرجه البخاري).
8- الأمانة في القضاء:
القضاء ميزان العدل في كل زمن، فإن اختل الميزان اختلت حياة الناس وضاعت بينهم القيم والحقوق، والله عز وجل يقول: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد: 25)، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا» (رواه مسلم).
9- الأمانة في الكتابة:
الأمانة في الكتابة تقتضي أن يكتب الكاتب وفق ما يملى عليه بدقة، أو وفق الأصل الذي تنسخ عنه، فلا يدخل فيه هوي نفس أو تبديل بالزيادة أو النقص فتلك خيانة للكلمة، وأما إذا كانت الكتابة للكاتب نفسه فيجب أن تكون خالية من تزييف الحقائق أو التدليس والتلاعب بعقول الناس أو تبديل الحقائق وتغييبها.
10- الأمانة في الأسرار التي يستأمن الإنسان على حفظها وعدم إفشائها:
لحفظ أسرار الأخ المسلم في الإسلام شأن عظيم وأمانة رفيعة، فعن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا حَدَّثَ الرَّجُلُ الحَديثَ ثم الْتَفَتَ فَهِي أَمَانَةٌ» (رواه الترمذي).
وقد تنزل القرآن الكريم ليعاتب بعض زوجات النبي صلى الله عليه وسلم على إفشائهن سراً للنبي عليه الصلاة والسلام فقال تعالى: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) (التحريم: 3).
تلك أهم 10 صور يومية من الأمانات التي يجب مراجعتها عن المسلم بشكل يومي، إذا تعرض لها أو لأحدها فلا يخن أو يقصر أو يبتعد كي لا يخرج من ربقة الإسلام أو يدخل في إحدى صور النفاق(3).
_____________________
(1) الأخلاق الإسلامية لعبدالرحمن الميداني (1/ 595).
(2) محمود الخزندار، هذه أخلاقنا حين نكون مؤمنين حقاً، ص517.
(3) مرجع المقال كتاب موسوعة الأخلاق، ج 2، خلق الأمانة.