تتنوع أحوال الناس في شهر رمضان المبارك، بين مجتهدٍ في الطاعات حريصٍ على العبادات، ومتكاسلٍ عنها منشغل بالشهوات أو الملهيات، وكلا الفريقين أسير لما استقر في قلبه واقتنع به عقله، من الفكرة التي يؤمن بها أو الرؤية التي يتبنّاها، فالسلوك ناتج عن التفكير ومعبر عنه.
فما السياسة الشرعية التي يجب أن يتبعها المسلم مع نفسه حتى ينتقل بها من الانشغال بالشهوات أو التكاسل عن الطاعات إلى الاجتهاد في الأعمال الصالحات؟
أولاً: إغلاق أبواب المعاصي وتحصيل المستطاع من الطاعات:
في صحيح مسلم عن أبي هريرة أنَّهُ سَمِعَ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: «ما نَهَيْتُكُمْ عنْه فَاجْتَنِبُوهُ، وَما أَمَرْتُكُمْ به فَافْعَلُوا منه ما اسْتَطَعْتُمْ»، وفي هذا الحديث يؤكد أن ترك الحرام ضرورة يجب أن يجعلها المسلم في مقدمة أولوياته، ثم يأتي بعد ذلك بما استطاع من العبادات، فكل ما نهى الله عنه ورسوله يجب أن يمتنع عنه المسلم أولاً، أما الطاعات والعبادات فليأت بما استطاع منها، حيث قال الله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ (التغابن: 16)، بل إن الكف عن السيئات يعد معيناً على فعل الطاعات، حيث إن النفس الإنسانية إذا تطهرت من السيئات فإنها تكون مهيأة ومستعدة لفعل الخيرات.
ولهذا، فإن المسلم يجب أن يبحث عن مصادر المعصية في حياته، ثم يغلقها تماماً، ولا يقترب منها، حتى لا تسول له نفسه أن يأخذ منها قدراً ضئيلاً، فتزل قدمه بعد ذلك، ولا يستطيع التحكم في نفسه، ولهذا نجد أن الله تعالى حين نهى عن الزنى، لم يقل: ولا تزنوا؛ وإنما قال: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾ (الإسراء: 32)، وحين أمرنا أن نحذر من الشيطان، لم يقل: لا تتبعوا الشيطان؛ وإنما قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ (النور: 21).
فإذا ابتعدنا عن ميادين المعصية تماماً؛ فإننا نصبح على استعداد تام لفعل الطاعات، وهنا لا يثقل المرء على نفسه فيها، بل يأتي منها بما يستطيع، وهذا ينقلنا إلى النقطة الثانية في سياسة النفس الإنسانية.
ثانياً: قليل دائم خير من كثير منقطع:
إن بعض الناس يحملون أنفسهم على عدد كبير من العبادات في الأيام الأولى من شهر رمضان، ويكثرون منها على غير المعتاد، مما يؤدي بعد وقت قليل إلى الإصابة بالملل، الذي يترتب عليه الانصراف الكامل أو الجزئي عنها.
ولعلاج هذه الحالة، أكد الرسول صلى الله عليه وسلم أن العمل القليل الدائم خير من الكثير المنقطع، ففي صحيح البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كانَ يَحْتَجِرُ حَصِيرًا باللَّيْلِ فيُصَلِّي عليه، ويَبْسُطُهُ بالنَّهَارِ فَيَجْلِسُ عليه، فَجَعَلَ النَّاسُ يَثُوبُونَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيُصَلُّونَ بصَلَاتِهِ حتَّى كَثُرُوا، فأقْبَلَ فَقالَ: «يا أيُّها النَّاسُ، خُذُوا مِنَ الأعْمَالِ ما تُطِيقُونَ؛ فإنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حتَّى تَمَلُّوا، وإنَّ أحَبَّ الأعْمَالِ إلى اللَّهِ ما دَامَ وإنْ قَلَّ».
ويمكن للإنسان أن يعين نفسه في ذلك من خلال أمرين:
الأول: أن يبدأ الأعمال التي يريد القيام بها في رمضان قبل دخوله، فيداوم عليها وتتهيأ نفسه لفعلها، فيصوم ويقوم ويقرأ ويتصدق في رجب وشعبان بما يجعله معتاداً على هذه الأعمال، وبالتالي لا يجد صعوبة أو مللاً في القيام بها طول شهر رمضان، بل إنه يكتسب من ذلك أن تصبح هذه الأعمال عادة له على مدار حياته كلها.
الثاني: البدء بالحد الأدنى من العبادات، كالفرائض والسنن المؤكدة فقط، والمداومة عليها، حتى تعتاد النفس فعلها، ولا تمل منها، فمن فعل ذلك فإنه ينال جزاء المفلحين.
ففي صحيح البخاري ومسلم عن طلحة بن عبيد الله قال، جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن أهْلِ نَجْدٍ ثَائِرَ الرَّأْسِ، يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ ولَا يُفْقَهُ ما يقولُ، حتَّى دَنَا، فَإِذَا هو يَسْأَلُ عَنِ الإسْلَامِ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ في اليَومِ واللَّيْلَةِ»، فَقالَ: هلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قالَ: «لَا، إلَّا أنْ تَطَوَّعَ»، قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «وصِيَامُ رَمَضَانَ»، قالَ: هلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قالَ: «لَا، إلَّا أنْ تَطَوَّعَ»، قالَ: وذَكَرَ له رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الزَّكَاةَ، قالَ: هلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قالَ: «لَا، إلَّا أنْ تَطَوَّعَ»، قالَ: فأدْبَرَ الرَّجُلُ وهو يقولُ: واللَّهِ لا أزِيدُ علَى هذا ولَا أنْقُصُ، قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «أفْلَحَ إنْ صَدَقَ»، ففي هذا دليل على أن الإتيان بالفريضة من شأنه أن يضع العبد على طريق الفلاح، بشرط أن يلتزم بها ويداوم عليها، فإذا فعل ذلك فإنها ستدعوه إلى الإتيان بما بعدها من التطوع.
ثالثاً: التدرج في الأعمال:
فإن الله تعالى خلق الأكوان، وأوجد البشر شيئاً فشيئاً، وخلق الإنسان أطواراً، ولو شاء لخلقهم دفعة واحدة في طرفة عين، ولكن حكمته اقتضت ذلك، وفي شرعه أنزل القرآن مفرقاً منجماً، وفرض شرائعه بتدرج حتى أكمل الدين وأتمه، فمضت سنة الله على ذلك، وجرت حياة الناس ومعايشهم على ذلك.
فإذا كان التدرج في الخلق والتشريع سُنة من سنن الله تعالى، فإن تغيير النفس الإنسانية ورياضتها لا يتأتى إلا بالتدرج، حيث إن الْمُنبَتَّ لا أرضًا قطعَ، ولَا ظهْرًا أبْقَى، فهو الذي يريد أن يصل إلى غايته في خطوة واحدة دون أن يتعايش مع المراحل المتعددة لهذا الهدف، ولهذا فإنه لا يحقق هدفه ولا يحافظ على نفسه.
والصواب في ذلك أن يأخذ الإنسان نفسه بالتدرج، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، ولَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وقَارِبُوا، وأَبْشِرُوا، واسْتَعِينُوا بالغَدْوَةِ والرَّوْحَةِ وشيءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ».
والنفس بطبيعتها تأنف من التغيير السريع، وسرعان ما تنقلب عليه حتى بعد أن تستجيب له.
ومما يدل على ذلك ما ورد عن عمر بن عبدالعزيز أن ابنه عبدالملك قال له: ما لك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق، قال له عمر: لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذلك فتنة(1)، وفي هذا دليل على أن الفجأة في التغيير قد تؤدي إلى التنفير، والتدرج في التغيير نوع من التيسير.
رابعاً: الحرص على زيادة الإيمان في القلب:
إن المتدبر في أحوال الناس يجد مِن كبار السن أو المرضى مَن يتحمل العبادة، بل إنه يستمتع بها ويقيم عليها الوقت الطويل دون ضجر أو ملل، وبعض الشباب لا يستطيع أن يكمل وقتاً ضئيلاً ومع ذلك يشتكي ويتململ، فالمريض يتحمل والصحيح يتململ، وهنا يثور التساؤل عن السبب في هذه الحالة؟
والجواب: أن العبادة طاقة روحية في المقام الأول، ويأتي الجسد خادماً لها، والجسد لا يتحمل إلا ما يمتلئ به القلب، فإذا امتلأ القلب بالإيمان؛ فإنه يستعذب الكثير من الأعمال، وإلا فإنه يتعذب بهذه الأعمال. إذ القلب هو المحرك الأساسي للإنسان، ففي صحيح البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير قال: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: «ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ».
فعلى كل مسلم أن يملأ قلبه بالإيمان، ويحرص على زيادته باستمرار، فإن هذا يعينه على الاستزادة من الخيرات والتغلب على الصعوبات حتى يفوز بنعيم الجنات.
________________________
(1) العقد الفريد: ابن عبد ربه الأندلسي (1/ 30).