الأصل في العبادات التعبد الوقفي دون النظر إلى الحكم والمقاصد؛ بمعنى أن الأحكام التي فرضها الله عز وجل على عباده هي عبادات وقفية لا يمكن الاجتهاد فيها أو البحث عن علتها إلا أن يذكرها الله عز وجل في كتابه العزيز، كما جاء في فرضية الحج: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ {27} لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ) (الحج)، وفي هذا يوضح الشيخ العز بن عبدالسلام قائلاً: المشروعات ضربان؛ ما ظهر لنا أنه جالب لمصلحة، أو دارئ لمفسدة ما لم يظهر لنا جلبه لمصلحة، أو درؤه لمفسدة، ويعبر عنه بالتعبد، والإذعان من غير جلب المصالح غير مصلحة الثواب، ودرء مفسدة غير مفسدة العصيان(1).
وفريضة الحج من العبادات البدنية التي لا يصلح تحكيم العقل البشري القاصر فيها، وإنما يتوجب على المسلم الاستسلام والإذعان التام لمناسكها تعظيماً لشأنها وطاعة لرب العالمين، ومع هذا فإن للمسلم أن يعلم بعض المقاصد والحكم التي ذكرها المولى سبحانه في تلك الفريضة الغالية التي نستخلص منها:
1- تحقيق التوحيد الخالص لله عز وجل:
لم يأمر الله عز وجل إبراهيم عليه السلام ببناء البيت إلا لتحقيق التوحيد الخالص لله عز وجل، فقال سبحانه: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (الحج: 26)، يقول ابن كثير في تفسير الآية الكريمة: هذا فيه تقريع وتوبيخ لمن عبد غير الله، وأشرك به من قريش، في البقعة التي أسست من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، فذكر تعالى أنه بوأ إبراهيم مكان البيت؛ أي: أرشده إليه، وسلمه له، وأذن له في بنائه.
2- إقامة ركن من أركان الإسلام:
الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام طالما كانت عند المسلم الاستطاعة إليه سبيلاً، وحين الشروع في الحج والعمرة فقد وجب على المسلم إتمامهما، فقال تعالى: (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) (البقرة: 196)، يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: اختلف العلماء في المعنى المراد بإتمام الحج والعمرة لله، فقيل: أداؤهما والإتيان بهما، كقوله: فأتمهن، وقوله: ثم أتموا الصيام إلى الليل؛ أي ائتوا بالصيام، وهذا على مذهب من أوجب العمرة، على ما يأتي، ومن لم يوجبها قال: المراد تمامهما بعد الشروع فيهما، فإن من أحرم بنسك وجب عليه المضي فيه ولا يفسخه، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، وقال سفيان الثوري: إتمامهما أن تخرج قاصداً لهما لا لتجارة ولا لغير ذلك، ويقوي هذا قوله: «لله»(2).
3- ذكر الله عز وجل:
عبادة الذكر من أحب العبادات لله عز وجل، وذكرها الله عز وجل في معظم التشريعات، وهي في الحج أولى، فيقول تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ) (البقرة: 198)، يقول ابن القيم عن الذكر: بل هو رُوح الحج ولبُّه ومقصوده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلـم: «إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله»(3).
4- التدريب على حُسن الخلق:
نهى الله عز وجل عن جملة من الأخلاق السيئة في الحج تعظيماً لشأن تلك العبادة، فقال سبحانه: (فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ) (البقرة: 197)، يقول السعدي: يجب أن تعظّموا الإحرام بالحج، وتصونوه عن كلّ ما يفسده أو ينقصه، من الرفث وهو: الجماع، والفسوق وهو: جميع المعاصي، ومنها محظورات الإحرام، والجدال وهو: المماراة والمنازعة والمخاصمة، والمقصود من الحج الذلّ والانكسار لله، والتقرب إليه بما أمكن من القربات، والتنزه عن مقارفة السيئات؛ فإنه بذلك يكون مبرورًا، والمبرور ليس له جزاء إلّا الجنة، وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كلّ مكان وزمان، فإنها يتغلّظ المنع عنها في الحج(4).
5- استجلاب المنافع الدنيوية والأخروية:
أنزل الله عز وجل دينه وأحكامه وتشريعاته متوازنة تحقق مصالح الفرد في الدنيا والآخرة، وعبادة الحج تستلزم السفر والانتقال والتلاقي مع المسلمين من أجناس وأطراف الأرض، فأباح الله عز وجل التكسب من التجارة وما يتعلق بها إلى جانب تحقيق الفوائد التعبدية من إقامة الفريضة، فقال تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ) (الحج: 28)، وقال أيضاً: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ) (البقرة: 198)؛ يقول السعدي: «أخبر تعالى أن ابتغاء فضل الله بالتكسّب في مواسم الحج وغيره، ليس فيه حرج إذا لم يشغل عما يجب إذا كان المقصود هو الحج، وكان الكسب حلالًا منسوبًا إلى فضل الله، لا منسوبًا إلى حذق العبد، والوقوف مع السبب، ونسيان المسبِّب، فإنّ هذا هو الحرج بعينه(5).
6- تعظيم شعائر الله تعالى الدال على تقوى القلوب:
تعظيم شعائر الله عز وجل هي واجب المسلم ومناط تكليفه، فليس في تشريعات الله كبيرة وصغيرة في قلب المؤمن، وإنما كافة أوامره تحمل نفس التقديس والتعظيم، ومناسك الحج جميعها ترسخ ذلك التعظيم في قلب وفعل المؤمن، وتغرس فيهما التقوى فيقول سبحانه: (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج: 32)، فحين يعظم تلك الشعائر فيعود منها معتاداً تعظيم كافة أوامره سبحانه.
7- ترسيخ مبادئ المساواة والأخوة بين المسلمين:
في الحج لا تستطيع أن تميز بين فقير وغني، متعلم وأمي، ريفي أو حضري، الناس هنا سواء بزي واحد وتكاليف واحدة وقبلة واحدة، يقول سبحانه: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال: 63)، ويقول عز وجل: (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) (البقرة: 200)، فالتفاخر في الحج ليس بالآباء والأنساب والانشغال بأمور الدنيا، وإنما بذكر الله وتحقق التقوى في القلب، يقول الإمام الطبري: قال بعضهم: كان القوم في جاهليتهم بعد فراغهم من حجهم ومناسكهم يجتمعون فيتفاخرون بمآثر آبائهم، فأمرهم الله في الإسلام أن يكون ذكرهم بالثناء والشكر والتعظيم لربهم دون غيره، وأن يلزموا أنفسهم من الإكثار من ذكره، نظير ما كانوا ألزموا أنفسهم في جاهليتهم من ذكر آبائهم(6).
8- تحقيق كامل العبودية والإذعان لأوامر الله:
كان العرب يحجون للبيت الحرام يبتغون الأصنام التي تعبدها كل قبيلة، علاوة على تلك الأصنام الموضوعة حول الكعبة، فكان الحج في الإسلام تحقيقاً للإذعان والعبودية الخالصة لله وأوامره سبحانه، وذلك بالرضوخ بلبس الإحرام وتنفيذ المناسك بدءاً من الطواف وتقبيل الحجر ورمي حجر آخر وصعود جبل عرفة وغيرها من المناسك التي قد تتعارض مع قبول العقل.
يقول الإمام الغزالي: «بمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرِّق والعبودية، فإنّ الزكاة إرفاقٌ ووجهه مفهوم وللعقل إليه مَيل، والصوم كسرٌ للشهوة التي هي آلة عدوّ الله وتفرّغ للعبادة بالكفّ عن الشواغل، والركوع والسجود في الصلاة تواضع لله عز وجل بأفعال هي هيئة التواضع وللنفوس أُنْس بتعظيم الله عز وجل؛ فأمّا ترددات السعي ورمي الجمار وأمثال هذه الأعمال فلا حظَّ للنفوس ولا أُنس فيها، ولا اهتداء للعقل إلى معانيها، فلا يكون في الإقدام عليها باعثٌ إلا الأمر المجرد، وقَصْد الامتثال للأمر من حيث إنه أمرٌ واجبُ الاتِّباع فقط، وفيه عزلٌ للعقل عن تصرّفه، فإنّ كلّ ما أدرك العقل معناه مالَ الطبع إليه ميلًا ما، فيكون ذلك الميل مُعِينًا للأمر وباعثًا معه على الفعل، فلا يكاد يظهر به كمال الرِّق والانقياد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحج على الخصوص: «لبَّيك بحَجَّةٍ حقًّا؛ تعبُّدًا ورِقًّا»، ولم يقل ذلك في صلاة ولا غيرها»(7).
إن هذه ليست كافة المقاصد التي من أجلها شرع الله عز وجل الحج، وإنما ما زال هناك من الحكم والأسرار، وما ينبغي للمسلم إلا أن يلبي نداء ربه «لبيك اللهم لبيك» محققاً آثار عباداته في نفسه.
_________________________
(1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبدالسلام (1/ 22).
(2) تفسير القرطبي.
(3) مدارج السالكين (2/ 399).
(4) تفسير السعدي، ص 92.
(5) المرجع السابق.
(6) تفسير الطبري (4/ 196).
(7) إحياء علوم الدين (1/ 266).