وحدة الأمة قضية مركزية في هذا الدين الحنيف، فقد ربط القرآن بينها وبين مقصد الخلق وهو العبادة، قال عز من قائل: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 92)، فعبادة الله عز وجل تقتضي اجتماع قلوب من يعبدونه ووحدة هديهم على وجهة بعينها، وحدة متجاوزة للزمان والمكان، وحدة جعلت أبناء هذه الأمة الإسلامية يصومون في عاشوراء احتفالاً بنجاة إخوانهم من قوم موسى على فرعون، تمامًا كما جمعتهم في أرض الحجاز آتين من كل فج عميق ليشهدوا مناسك الحج الذي ناداهم إليها إبراهيم أبو الأنبياء عليه السلام، وفي هذا المقام نتعرض إلى وجوب توحد الأمة المسلمة، ثم الإشارات الدالة على مظاهر وحدتها في ضوء تشريع مناسك الحج، ثم مآلات ذلك من خيرات وبركات.
أولاً: أهمية وحدة الأمة الإسلامية:
مما لا شك فيه أن الاهتمام بأي قضية يكون في تناسب مع علم المرء بأهميتها، لذا فإن التوعية بأهمية الوحدة وأضرار الفُرقة وعلاقة ذلك بالإيمان لهو من الأهمية بمكان، والمتأمل في وصف القرآن لحال الصحابة قبل الإيمان وبعده يدرك ذلك، قال الله عز وجل: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران: 103)، وفي الآية فوائد عدة، منها:
1- وصف خطورة التفرق والعداوة ببيان حال الأوس والخزرج قبل إسلامهم وما كان بينهم من الحروب؛ كأنهم على حرف حفرة من النار يكادون يسقطون فيها من شدة الجاهلية التي كانوا عليها.
2- الأمر الصريح بالوحدة وعدم التفرق (وَاعْتَصِمُوا)، مما يدل على مركزية قضية الوحدة في الإسلام، ويُعلى من أهميتها في النفوس.
3- أن أساس الوحدة يبدأ من الاعتصام بكتاب الله تعالى وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم والتمسك بهما، لذا لم تكن (وَاعْتَصِمُوا) سوى (بِحَبْلِ اللَّهِ)، فالاجتماع المحمود لا يكون إلا على محمود.
4- قدرة الإيمان على إذابة الخلافات وتأليف الناس، حتى تصير القلوب المتنافرة من شدة العداوة متحابة متآخية.
5- قدرة المسلمين على التوحد مهما بلغت مشكلاتهم، إذ إن قضيتهم كبرى لا يسعهم مع عظمتها إلا الاجتماع عليها، فإذا مُلئت القلوب بصحيح الإيمان باطنًا هذبت الجوارح وأقامتها على الإسلام ظاهرًا.
6- أنه لما امتن الله على عباده بنعمة منه سبحان دل ذلك على أنه يرضاها لهم، ولذا فإن الله يرضى لنا الجماعة ويبغض لنا التفرق.
7- حاجة المسلمين للالتفاف حول قيادة واحدة كما التفت المدينة بجميع مكوناتها حول قيادة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك منعًا للتشتت.
وعليه، فإن هذه الآية مركزية في بيان أهمية الوحدة بين المسلمين وأسبابها، بل هي حالة واقعية ونموذج عملي في تبدل أحوال الناس من الفرقة إلى الوحدة بسبب الإيمان، وإنا لنجد دلالة ذلك في أكثر تشريعات الإسلام لا سيما الأركان الخمسة، فشهادة التوحيد كلمة جميع المسلمين من لدن آدم عليه السلام إلى آخرهم، والصلاة التي شرع الله فيها الاجتماع، والزكاة التي تؤخذ من أغنياء المسلمين وترد على فقرائهم بما يشعرون فيها من تكافل وترابط، والصوم الذي يستوي فيه من يقدر على الطعام والإطعام ومن لا يقدر، ولمناسبة هذه الأيام المباركات نذكر ما في الركن الخامس من دلالات بشأن وحدة المسلمين.
ثانياً: مناسك الحج ووحدة الأمة:
بعد بيان أهمية الوحدة بين المسلمين، يأتي دور العبادات في ترسيخها بصورة عملية، ومن أهم ما نجده من ذلك في مناسك الحج:
– الاجتماع على الكتاب والسُّنة:
ولأن مصدر التشريع واحد، فإنك تجد الحجيج جميعًا يؤدون نفس المناسك، وفي الأوقات نفسها، ويلبسون الملابس نفسها، ويحرم عليهم جميعًا ما يحرم من الحاج وقت إحرامه، مما يمثل الوحدة ونبذ الخلاف ظاهرًا وباطنًا في أبهى تمثيل.
– المساواة وإزالة أسباب التمييز:
فكل الحجاج يرتدون ملابس الإحرام البيضاء، ويتركون ملابسهم العادية التي تميزهم فتبين طبقاتهم الاجتماعية، أو تدل على انتماء القبلي، أو دولهم، في إشارة واضحة إلى تساويهم ووحدتهم تحت مظلة التوحيد، دون تمييز بحدود مكانية فاصلة، أو تحيزات فكرية، أو لغات متباينة، أو غيرها.
– وحدة المكان والزمان والمناسك:
الحجاج يجتمعون في مكان محدد وزمان محدد ليؤدوا مناسك محددة، وذلك تلبية لدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين لبى نداء ربه بالأذان للحج، فقد قال الله عز وجل له: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (الحج: 27)، ولعل ذلك مما يبين إمكان اجتماع الأمة المسلمة؛ فما جمعهم من دعوة الخليل عليه السلام للحج يجمعهم على دعوة الإسلام، كما جاء في نفس السورة قول الله عز وجل: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۗ فَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا ۗ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) (الحج: 34).
– الاتحاد ومركزية الآخرة:
لم يجتمع الحجاج ويتكلفوا مشاق المناسك إلا رغبة بالغفران ونيل ثواب الآخرة، وهذا مما يدل على أنه كلما رسخت رغبة الآخرة في النفوس؛ هانت مشاق الأُولى عليها، فنبذت بذلك التنافس على الدنيا والمصالح الشخصية واتباع الأهواء، وهذا مما يُسهل اجتماع الأمة ووحدة مقصدها في تحقيق رضا الله عز وجل.
– تصحيح المعاملات بين أفراد الأمة:
في الحج تذكير للصورة المثالية للمعاملات بين أفراد الأمة المسلمة، فلا فسوق ولا جدال يورث المشاحنة والتفرق؛ (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (البقرة: 197).
ثالثاً: مآلات وحدة المسلمين:
ولأن أعظم صورة لاجتماع المسلمين واتحادهم تُحيي الأمل في النفوس بإمكان تحقق ذلك واقعًا يومًا ما، فإن مآلات ذلك من الخيرات لا تحصى ولا تعد.
فمنها أن طاعة الله ورسوله من أسباب الاجتماع، قال الله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 46)، وبهذا يُحفظ الدين وتثبت دعائمه أمام الغزو الثقافي لمن يعاديه، ومنها تحقيق الترابط بين أبناء الأمة الإسلامية الذي يؤدي إلى ترك العصبيات وترسيخ الوعي بحقيقة الغرض من خلق الإنسان وهي العبادة، ووجوب تسخير البيئة ومقدرات أفرادها لتتناغم مع هذا الغرض، وسيظهر بهذا مجتمع إسلامي صالح يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ويؤمن بالله، فتستحق الأمة بذاك خيريتها؛ (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ) (آل عمران: 110).
نسأل الله سبحانه وتعالى الذي توحَّد الحجيج على تلبية دعائه «لبيك اللهم لبيك» أن تجتمع أمة الإسلام على دينه العظيم، فتفيق بذلك من كبوتها، وترجع قائدة لجميع العالم إلى الهدى والنور.