لا شك أن المؤسسات الدينية تؤدي دوراً مهماً على مدار التاريخ الإسلامي في الحفاظ على هوية وخصوصية الأمة الإسلامية الحضارية والثقافية في مختلف المجتمعات عبر القرون، وكذلك في بلاد المهجر،
واستطاعت المؤسسات الدينية عبر الأطر التي ابتكرتها القيام بهذا الدور بشكل رائد وفعال من خلال الوقفيات والتكايا والسبل التي يقوم بها أصحاب الصنائع والحرف والتجمعات المهنية والعلمية المختلفة من جهة، وكذلك المؤسسات التي دشنتها الدولة الإسلامية على مر تاريخها وما زالت آثارها قائمة حتى اليوم، وآلاف الجمعيات الدراسية والدينية والخيرية والاجتماعية والطبية، وجمعيات العلوم الشرعية وغير الشرعية، والكل يهدف إلى الحفاظ على هوية الأمة الإسلامية ورعاية الأجيال لمواجهة طوفان التغريب والبعد عن جوهر الدين الحنيف.
في البداية، يؤكد د. محمود النفار، أستاذ أصول الفقه والسياسة الشرعية المساعد في كلية الإلهيات في جامعات تركيا، لـ«المجتمع»، أن الهوية الإسلامية للعالمين العربي والإسلامي بالإضافة إلى المجتمعات الإسلامية في بلاد الغرب تواجه تحديات كيانية، وتهديدات وجودية تفرض أدواراً استثنائية على جميع المشتغلين بحراستها من المؤسسات المتعددة مثل الأسر والمدارس والجامعات والأوقاف والجمعيات والمنتديات والنقابات والحركات، وتتصدر هذه القائمة المؤسسات الدينية الرسمية والأهلية مثل وزارات الأوقاف، واتحادات العلماء، ومنظمات الدعاة، ومؤسسات التربية التي انتدبت نفسها مشكورة لتحقيق مقصد حفظ الدين على الأمة ثم بثه في الإنسانية، لتسهم بذلك في إيقاع فريضة من فروض الكفايات، وتتشارك المسؤولية مع نظيراتها في إحياء الأمة وتشييد حضارتها.
د. النفار: تحويل التهديدات الحقيقية المتوجهة نحو هوية الأمة إلى أولويات للفعل الحضاري للمؤسسات الدينية
ويضيف د. النفار أن انتهاض هذه المؤسسات، بطريق التكامل والتعاضد، لأداء هذه الوظيفة الكلية والمهمة الحضارية في حفظ هوية الأمة هو تجديد للنموذج المعرفي الإسلامي الذي تمثل فيه المساجد على سبيل المثال مشعل الإصلاح ومصدر النور الذي يستوعب طاقات الأمة ومجالات عملها المختلفة.
كما يمثل هذا القيام تجديداً للخبرة الحضارية الإسلامية التي كان لهذه المؤسسات فيها الدور الأهم والأبرز في حفظ هوية الأمة حيث مثلت المساجد منارة للعلم، ومجمعاً للفقهاء، ومجلساً للقضاء وداراً للفقراء، وقاعدة للإعداد ومنطلقاً للجهاد، ومثلت الجامعات في ذاكرة الأمة محل شورى أهل الحل والعقد في مواجهة الأخطار الخارجية كما هي الحال في جامعة القرويين في المغرب، والأزهر في مصر والشام، وغيرهما.
ويشير إلى أن إقامة الدين كما أنزله الله تعالى في القرن الحادي والعشرين بتشييد أصوله، وبناء فروعه بات محفوفاً بالكثير من الأخطار الداخلية والخارجية التي توجب على المشتغلين في الحقل الديني إعادة ضبط البوصلة والقبلة نحو مقاصد الدين، ثم ضبط بواعث المشتغلين بإقامته نحوها، ولا يتحقق هذا الضبط إلا بتجديد الأنظار، ومراجعة الخطط، وتجديد المناهج، ونحوها.
ونحسب أن صبغ أمة ما بخصائص وقسمات وسمات مشتركة تجعل لها شخصية مستقلة وجبلة فريدة عن غيرها أو الحفاظ على هذا الصباغ أمر لا يتحقق من خلال جهود مبعثرة لا تستند إلى دراسات تخصصية ومشورة للخبراء، وهو ما نصادفه في جهود أعداء وخصوم الهوية الإسلامية الذين يستندون إلى جهود قرون من الاستشراق الاستخباري ثم قرنين من الاستشراق المعرفي ثم قرن من جهود التغريب القسري على أنقاض الحواضن الحضارية للتدين في الأمة.
كما يُحدّث هؤلاء الأعداء والخصوم خططهم من خلال استطلاعات دقيقة ترصد الحالة الدينية في العالم العربي والإسلامي والمجتمعات الإسلامية في الغرب، وبرامج دعم لتلك الجهود.
ونحن ندعو في هذا السياق إلى تحويل التهديدات الحقيقية المتوجهة نحو هوية الأمة الإسلامية إلى أولويات للفعل الحضاري للمؤسسات الدينية، وهنا نستدعي جملة من الأخطار الحقيقية مثل مقاومة الإلحاد والشذوذ والتفاهة والإحباط، والمنشود المأمول هو تحديد مهام ووظائف هذه المؤسسات في الواقع المعاصر بحسب هذه التحديات والأخطار من خلال فقه إستراتيجي يعي هذه التحديات في سياقاتها الكلية التي تتجاوز حدود الحقل الديني لتتصل بالمجال الحضاري، يستعين هذا الفقه بفقه الأولويات في تعيين المعروف والمنكر محل الأمر والنهي، وتجديد الخطاب الديني، ويوجه الأجيال المتعاقبة في هذه الأمة نحو الاصطباغ بقضاياها وتعزيز مناعتها الحضارية.
التصدي للتطبيع
ويقول د. النفار: إنه تتبوأ -فيما نحسب- مدافعة التطبيع سلم أولويات المؤسسات الدينية في الواقع الراهن؛ لأن شرط بقاء التطبيع واستمراره هو تغيير عقيدة الأمة وشريعتها من خلال ما اصطلح عليه بـ«اتفاقيات أبراهام» التي تتضمن خططاً وتدابير دينية وفكرية وثقافية تفضي إلى تذويب هوية الأمة وتغييب أركان قوتها، وتسييد الكيان الصهيوني على المنطقة العربية والإسلامية.
وهنا نجدد لفت الأنظار إلى ضرورة إفادة وبناء المؤسسات الدينية على مفاعيل معركة «طوفان الأقصى» المباركة التي امتدت آثارها داخلياً بتجديد التدين العميق في ضمائر أبناء الأمة، وخارجياً بتجديد البحث عن الإسلام، ونحسب أن المعركة أكبر فرصة أمام المؤسسات الدينية في القرن الأخير كي تجدد ذاتها وتحقق غايتها ببناء أمة عميقة التدين، عظيمة الإنسانية، عالمية الرسالة، وافرة العطاء.
نافع: المؤسسات الدينية كان لها آثار إيجابية في النهوض الحضاري بالأمة الإسلامية لا سيما النهضة العمرانية
في حين يرى إيهاب نافع، رئيس الائتلاف العالمي الطلابي لنصرة القدس سابقاً، من لبنان، لـ«المجتمع»، أنه على مدار الزمن كانت المؤسسات الإسلامية، ولا سيما الوقفية منها، منتشرة في كل النواحي والأمصار، تقوم بدور رائد قلَّ نظيره في المجتمعات الأخرى؛ بل قد يكاد يكون منعدماً فيها، فحديث النبي محمّد صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: «إذا مات ابنُ آدمَ انقطع عملُه إلا من ثلاثٍ؛ صدقةٍ جاريةٍ، وعلمٍ ينتفعُ به، وولدٍ صالحٍ يدعو له»؛ فالصدقة الجارية تعني بعد الموت تبقى له هذه الصدقة يحبس أرضاً تُؤجَّر، وتُصرف أجرتُها لمساعدة الفقراء والمساكين، وفي دعم الجهاد لنصرة الإسلام، وفي تعمير المساجد، إلى غير ذلك.
ويضيف نافع أن هذا الحديث جعل كل مسلم مقتدر يضع هذا الحديث الشريف نصب عينيه، فكان يحرص على أن ينشئ صدقة جارية تؤنسه في قبره وتكون له رفع درجات يوم القيامة، فكانت منظومة الأوقاف التي وفرت عبر الزمن استدامة للمؤسسات الإسلامية ورعاية للأيتام والأرامل والعجزة وغيرهم ممن يحتاج إلى الرعاية والاهتمام.
كما كان لهذه المؤسسات الدور الكبير في حفظ هوية الأمة الإسلامية، فمن يستطيع أن ينكر ماذا قدمت هذه المؤسسات، ونخص بالذكر منها دُور القرآن الكريم التي أنشأت جيلاً يرتبط قلبه بكتاب ربّه وبسُنة نبيه محمّد صلى الله عليه وسلم، ودور هذه المؤسسات في رعاية المجاهدين الذين كانوا يرابطون على الثغور ورعاية عوائلهم، إضافة إلى رعاية التطور العلمي الذي ما كان ليستمر لولا هذه المؤسسات التي كانت تعتبره من أولوياتها.
المؤسسات الدينية كذلك كان لها آثار إيجابية في النهوض الحضاري بالأمة الإسلامية، لا سيما في النهضة العمرانية، فقد أسهمت الأوقاف في حركة بناء المساجد التي تتمحور حولها الحضارة العمرانية الإسلامية، كما أنّ لها آثاراً أخرى إيجابية على جوانب اجتماعية واقتصادية لهذه الحضارة المتميزة، وحريٌّ بنا أن نشجع هذه المؤسسات ليعود لها دورها، وهنا تكون الإفادة للجميع للواقف الذي يناله الأجر الكبير الدائم ولهذه المؤسسات التي يرجى أن تستعيد دورها الرائد في نهضة الأمة وتقدمها وازدهارها.
منظومة الأوقاف
ومن جهته، يقول عضو المجلس الإسلامي السوري الداعية أحمد بكار، مدير أكاديمية القرآن الكريم بإسطنبول، لـ«المجتمع»: إن المؤسسات الدينية في بلاد المسلمين، وفي البلاد التي فيها تجمعات للمسلمين، لها الدور الأول والفعال في المحافظة على الهوية الإسلامية، من خلال منظومة الأوقاف، ولا بد أن نفرق بين الأوقاف المسيسة من قبل الحكومات التي ترسم سياسات هذه المنظمات، والمؤسسات الدينية التي تعمل بهامش من الحرية، وكلنا يعلم أن غير المسيسة هي أنفع ودورها أعظم في الحفاظ على الهوية الإسلامية، وخصوصاً في تطبيق الشعائر من العبادات، منها بناء المساجد وعمارتها برفع الأذان وإقامة الصلوات، وإثبات الصيام، وتنظيم رحلات الحج والعمرة، وغيرها من الشعائر، التي تذكر الناس في مجتمعاتها بهويتها وطابعها الإسلامي.
ويضيف أن خطبة الجمعة الموجهة، والمحاضرات المستمرة في توعية الناس لما يجب عليهم تجاه دينهم، الذي يعطيهم طابعاً إسلامياً يربطهم بدينهم وهويتهم الإسلامية، والمحافظة على القرآن والسُّنة، بإنشاء المعاهد الشرعية، والمجالس العلمية، التي يحمل همها العلماء العاملون المتقنون في نشر علوم القرآن والسُّنة في المدارس الشرعية أو الخاصة بطابعها الإسلامي، وهذا من أعظم ما تتسم فيه الأمة بربط أفرادها بدينها وهويتها.
بكار: المؤسسات الدينية كان لها الدور الفعال في المحافظة على الهوية الإسلامية من خلال منظومة الأوقاف
ومنها فقه التعامل مع غير المسلمين الذين يعيشون في بلادنا، بما لا يخالف شرع الله وأحكام الشريعة الغراء، من غير تنازل من قبل المسلمين، وخصوصاً لما يكون من ثوابت هذا الدين، وليعلم الناس جميعاً أن أول دستور مدني في التاريخ كان دستور المدينة المنورة، الذي حقق به النبي صلى الله عليه وسلم الوحدة بين سكان المدينة جميعهم من المسلمين واليهود والنصارى والوثنين، ومن جميع الإثنيات، من الأوس والخزرج، ومن المهاجرين والأنصار، ومن بقية القبائل العربية الأخرى، فإن كان هناك دين يؤصل للوحدة والهوية الإسلامية فالإسلام يأتي أولاً.
وتلك مفاهيم يجب على المؤسسات الدينية في بلادنا أن تسعى لنشرها، وإن كانت وزارات الداخلية تسعى لتحقيق الأمن من خلال محاربة الجريمة، فإن وزارات الأوقاف والمؤسسات الدينية تسعى لتحقيق الأمن من خلال الجانب الفكري، وكلاهما جناحان لا يستغنى عنهما في أي بلد، وخصوصاً في البلاد التي لا تظهر العداء للإسلام والمسلمين.